إلى أين وصل الشذوذ في عصرنا
إلى أين وصل الشذوذ في عصرنا
مرت فاحشة الشذوذ بعدة مراحل عبر التاريخ –خاصة في المجتمعات الغربية- من حيث التعامل معها والموقف منها على جميع الأصعدة؛ ابتداء بإعدام الشاذ، ثم التعامل معه كمريض يعاني اضطرابا نفسيا، ثم التسامح معه، ثم تقبله كإنسان سوي له حقه وحريته في اختياره، ووصلت في عصرنا الحاضر في كثير من الدول إلى عقوبة من ينتقد ويسخر من هذا الشاذ، ولا ندري أين ستصل هذه الفاحشة في المستقبل.
ونلخص هذا التطور التاريخي من عدة جوانب:
أولاً: الاسم والمفهوم والتعريف (من الشذوذ إلى المثلية):
وردت ألفاظ وعبارات كثيرة استخدمت في التعبير عن الشذوذ الجنسي، منها: اللواط، المساحقة، إتيان البهائم، جماع الأموات. وغير ذلك من الألفاظ التي تعبّر عن فعل واحد من أفعال الشذوذ، واستخدمت “عبارة الشذوذ الجنسي” للدلالة على هذه الأفعال مجتمعة.
على أن هذا التعريف “للشذوذ الجنسي” لم يبق على حاله، فمع بدء الدعوات إلى التعاطف مع الشاذين جنسيا في العالم، بدأت تغيب عبارة “الشذوذ الجنسي” من كتب علم النفس، وتم استبدالها بعبارة “المثلية الجنسية”، وهي تعريب للمصطلح الإنكليزي Homosexuality.
والملاحظ أن هذا الانتقال السريع من عبارة “الشذوذ الجنسي” إلى عبارة “المثلية الجنسية” جاء بسرعة قياسية، فقبل أقل من عقد ونصف من اليوم كانت عبارة “المثلية الجنسية” غريبة جداً ونادرة الاستعمال لدرجة أن كاتباً من مستوى جهاد الخازن، وهو أحد كتاب جريدة الحياة لا يمكن لأحد التشكيك باطلاعه وقدراته اللغوية، كان يجهل وجود هذه الكلمة أصلا.
وهذا المصطلح يصلح للترويج لهذه الفاحشة وإعطائها قبولاً بين الناس أكثر من عبارة “الشذوذ الجنسي”، فكلمة المثلية والمثليين محايدة جداً؛ ولا تحمل أي حكم أخلاقي، إنها مجرد توصيف لما يسمونه الميل الجنسي للفرد، وهذا الحياد المقصود. يملك تأثيراً كبيراً على المجتمع؛ فلفظ (المثلية) يجردنا بالتدريج من الرفض للحالة، ربما دون أن نشعر، وربما بوضوح أكثر على الجيل الجديد الذي سينشأ وهو يسمع الكلمة…. وعيه وفهمه للأمر لن يكون مطابقاً على الإطلاق لمن نشأ وهو يسمع كلمة: (الشذوذ) المرتبطة بالانحراف، بالإقصاء عن المجتمع.[1]
ثانياً: موقف رجال الكنيسة (من الرفض الحاسم إلى بعض اللين والقبول):
تدين التوراة والإنجيل فاحشة الشذوذ، وتحذر منها، وتجرمها:
جاء في التوراة: “إذا اضطجع رجل مع ذكر اضطجاع امرأة فقد فعل كلاهما رجساً. إنهما يُقتَلان. دمهما عليهما”.[2]
جاء في الانجيل: “لا تضلوا، لا زناة، ولا عبدة أوثان، ولا فاسقون، ولا مأبونون، ولا مضاجعو ذكور….”.[3]
وفي الشرع الكنسي فقد عاقب القانونان السادس والسابع عشر من مجمع أنقرة عام 314م على اللواط بالصيام مدة خمس عشر سنة؛ وقد رفع القديس باسيليوس في القانون السابع من رسالته الأولى إلى أمفيلوخيوس أسقف إيقونيه عقوبة اللواط إلى ثلاثين سنة إذا كان قد ارتكبها عن جهل، وأكثر إذا كانت عمداً.[4]
لكن هذا الموقف الكنسي بدأ يتغير في العصر الحاضر ويتجه إلى الليونة – وإن كان بشكل غير رسمي- في التعامل مع المثليين، وظهر هذا واضحا في تصريح الأب فرانسيس:
فبعد عرض فيلم وثائقي بعنوان “فرانشيسكو” في “مهرجان روما السينمائي” تناول البابا الأرجنتيني موقفه من الأزمات الراهنة في العالم.
وفي أحد مقتطفات الفيلم، يقول فرانسيس: “يحقّ للمثليين أن يكونوا ضمن العائلة. إنهم أبناء الله. ولديهم الحق أن ينتموا لعائلاتهم. لا يمكن طرد أحد من العائلة أو جعل حياته بائسة لسبب مماثل. يجب أن تكون هناك تشريعات لشراكات مدنية، وبذلك يحظون بتغطية القانون”.[5]
ولا غرابة في هذا؛ فالشذوذ الجنسي لكبار قساوسة الفاتيكان المسيحيين يُعَدّ “من بين أكثر الأسرار التي تكتّم الفاتيكان عليها في الخمسين سنة الأخيرة” حسب ما ذكر الكاتب الفرنسي والصحفي المتخصّص في علم الاجتماع فريدريك مارتيل في حوارٍ أجراه مع صحيفة “لونوفال أوبسرفاتور” الفرنسية، وكان قد أصدر كتاباً بعنوان “سودوما” من ستمئة صفحةٍ، عرض فيه تحقيقه الذي استمرّ أربع سنوات عن الشذوذ الجنسي لقساوسة الفاتيكان ورهبانه.[6]
وقد لاقى هذا التصريح ترحيبا لدى المثليين، ففي تصريح للكاثوليكي ورئيس تمثيل مصالح المثليين في الحزب المسيحيين الديمقراطي والاجتماعي في ألمانيا، ألكسندر فوغت، تحدث عن معاناة عميقة للمثليين الكاثوليك، في مقابلة مع DW ومما قاله: “نحن سعداء، لاسيما وأننا انتظرنا هذه الكلمات فترة طويلة”، وأضاف: “أنتظر من البابا بعض كلمات الاعتذار. لأن تعاليم الكنيسة الكاثوليكية سببت الكثير من المعاناة والألم في الماضي للكاثوليك المثليين”.[7]
ومع أن الموقف الرسمي للكنيسة الكاثوليكية يرفض مباركة المثلية، فهناك بعض الكنائس في أوروبا تبارك هذه الفاحشة:
فقد أعلن كهنة من نحو مئة كنيسة كاثوليكية في ألمانيا (الاثنين العاشر من مايو/ أيار 2021) مباركتهم زواج المثليين، في تحد واضح للفاتيكان.[8]
أما الكنيسة الأرثوذكسية، فقد حافظت على موقفها المدين لممارسة الشذوذ وعدته خطيئة وفعلاً لا أخلاقياً، وهي تعتقد بأن واجب الكنيسة هو السعي إلى إصلاح الشاذ عن طريق شفائه روحياً وجسدياً، وليس مباركة ممارساته أو إيجاد القوانين لتشريعها.[9]
ثالثاً: الموقف الطبي (من السلوك المنحرف إلى السلوك الطبيعي):
أولى النظريات النفسية حول الشذوذ الجنسي بالذات بدأت مع العالم «ألفرد كينزي» في الأعوام 1940-1950م، والذي قام بدراسات للتصرفات الجنسية للشعب الأميركي عبر تحقيقات وإحصاءات.
بعد ذلك أخذت الدراسات تتوالى، ففي سنة 1952 قامت “الجمعية الأمريكية للطب النفسي” بإدراج الجنسية المثلية في الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض النفسية تحت فئة اضطرابات الشخصية المضادة للمجتمع.
وفي العام 1973 حذفت الجمعية نفسها الشذوذ الجنسي من لائحة الأمراض النفسية، وذلك إثر تحرك بعض الناشطين المؤيدين للشذوذ الجنسي.
وبذلك تشير المصادر إلى دور فاعل لبعض الناشطين الشاذين الذين قاموا بإقناع الجمعية الأميركية للطب النفسي (apa) في بداية السبعينيات لحذف الجنسية المثلية من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية (dsm) بعد ما كان يتناقل بين أوساط علماء النفس بأن السحاقية واللوطية يصنفان مع الشواذ والمعاقين، وبسبب الجدليات التي دارت خرج التشخيص تدريجياً من هذا التصنيف، وفي 1973 أجرت الجمعية الأميركية للعلاج النفسي تصويتاً لسحب مصطلح الجنسية المثلية من دليل الأمراض العقلية لتضع مكانه اضطراب في التوجه الجنسي، وبعد ذلك في العام 1974 وافق المجلس على قرار شطب المثلية الجنسية كاضطراب، وتبعه بعد ذلك قرار للجمعية النفسية في العام 1975 وقرار منظمة الصحة العالمية عام 1990 بعدم عدّ المثلية الجنسية اضطرابا في التوجه الجنسي.[10]
حتّى إن بعض الخبراء يقترحون تصنيف “رهاب المثلية” على أنه اضطراب لا يطاق في الشخصية، إلى جانب العنصرية والتمييز الجنسي، وفي المستقبل القريب قد يوضع أصحاب “رهاب المثلية” في مصحات الأمراض النفسية لهذا الغرض.[11]
رابعاً: الموقف القانوني (من إعدام الشاذ إلى عقوبة من يرفضه):
قديما وصف النشاط الجنسي المثلي في أوروبا بأنه “خاطئ”، وكان بموجب قانون السدومية 1533 في عهد هنري الثامن محظوراً ويعاقب عليه بالإعدام.
بدأت حقوق المثليين بالتطور أول مرة بعد تجريم النشاط الجنسي بين الرجال، في عام 1967 في إنجلترا وويلز، وبعد ذلك في اسكتلندا وأيرلندا الشمالية.
ومنذ مطلع القرن الواحد والعشرين، تعزز دعم حقوق المثليين على نحوٍ متزايد.[12]
وفي الوقت الحاضر لا يوجد أي دولة أوروبية تجرم المثلية الجنسية الرضائية بعد أن كانت معظم هذه الدول تجرم هذا السلوك. [13]
لم يعد موضوع المثلية الجنسية يقتصر على مجرد دعوات إلى الاعتراف به بوصفه حقا من حقوق الإنسان، بل تعدى الأمر ذلك، وظهرت مفردات المثلية الجنسية في التشريعات الداخلية لكثير من الدول، وهذه المرة لم تظهر المثلية الجنسية من أجل التجريم أو الإباحة، ولكنها ظهرت من أجل التنظيم والحماية، فقد أصبحت المثلية الجنسية حقا منظما في العديد من التشريعات، حيث اعترفت تشريعات بعض الدول بوجود علاقة جنسية مثلية وفق ما يسمى الشراكة المثلية، وتعدى الأمر ذلك في عدد قليل من الدول وشرعت قوانين اعترفت بها بالزواج المثلي، ووفرت بعض التشريعات حماية قانونية للحق في الميول الجنسية.
من أمثلة ذلك:
الدنمارك: يجرم القانون الدنماركي من يقوم بنشر بيانات أو تقارير فيها تهديد أو سخرية من أناس بسبب ميولهم الجنسية وتصل عقوبة ذلك بالغرامة أو السجن لمدة تصل لسنتين.
النروج: يعاقب قانون العقوبات النرويجي بالغرامة أو الحبس مدة سنتين على قيام أي شخص علانية وبأية وسيلة بنشر معلومات تهدد أو تؤذي أو تنشر الكراهية أو الاضطهاد أو الاحتقار تجاه أي شخص أو جماعة بسبب ميولهم الجنسية.
السويد: حسب قانون العقوبات السويدي فإنه يعاقب بالغرامة أو بالحبس حتى سنة على الهبوط بمستوى الخدمات المقدمة لشخص على أساس أنه مثلي الجنس.[14]
ومن مدة قريبة استدعى الاتحاد الفرنسي لكرة القدم، السنغالي إدريسا غي لاعب باريس سان جيرمان، لمساءلته بشأن سبب غيابه عن الجولة الأخيرة من الدوري الفرنسي ضد نادي مونبلييه، والتي ارتدى خلالها زملاؤه قمصانًا بأرقام ملونة بألوان قوس قزح، للتنديد برهاب المثلية الجنسية ورفض اللاعب السينغالي لبس هذا القميص، ولاقى تأييداً واسعاً في الأمة الإسلامية.
وفي حادثة أخرى أصدر قاض أمريكي حكما بالسجن 15 عاما على رجل انتزع علما للمثليين من باب كنيسة ثم أحرقه أمام ناد للتعري. ووقع الحادث في حدود منتصف الليل يوم 11 يونيو/ حزيران بولاية أيوا.[15]
خامسا: من التهميش إلى أرفع المناصب:
بعدما كان الشاذ جنسياً منبوذاً مهمشاً، صار اليوم يصل إلى أرفع المناصب في المؤسسات والوزارات والبرلمانات، وصار لهم تأثير كبير في سياسات الدول وقراراتها.
وقد تابع العالم في قمة حلف شمال الأطلسي “الناتو” وقوف “ما يسمى زوج رئيس وزراء اللكسمبورغ (المثلي) إلى جانب زوجات رؤساء الدول المشاركين في القمة، ومرّ الأمر دون استنكار أو استغراب في الغرب.
وقد ذكرت ويكيبيديا أكثر من 30 شخصية لها مراكز سياسية ووزارية من الذين أعلنوا عن توجههم الجنسي المثلي، فما بالك بالذين لم يعلنوا عن ذلك؟
لقد أصبح لهذه الفئة حضور سياسي قوي يحسب له الحساب في الناحية الانتخابية، فقد أعلن أكثر من 100 نائب برلماني ألماني عام 2011 عن نيتهم مقاطعة جلسة برلمانية حين زيارة البابا لبرلين لموقف الفاتيكان السلبي تجاه المثلية الجنسية.[16]
في دراسة إحصائية قام بها معهد pew الأمريكي أظهرت نتيجة تأييد الزواج المثلي على النحو التالي: السويد 88%، الدنمارك وهولندا 86%، المملكة المتحدة 77%، ألمانيا 75%، فرنسا 73%.
والحمد لله.. هذه النتيجة في بلادنا الإسلامية على العكس تماماً؛ فيصل متوسط نسبة رفض الشذوذ إلى 95%، ونسأل الله أن يحفظ فطرة الشعوب الإسلامية، وكل شعوب العالم من أن يعبث بها شياطين الإنس والجن.[17]
- الشذوذ الجنسي, نهى قاطرجي, ص: 27 بتصرف ↑
- ( اللاويين 13:20) ↑
- ( كورنثوس الأولى 10، 6:9). ↑
- المثلية الجنسية الرضائية بين التجريم والإباحة, عبد الإله النوايسة, ص: 259 ↑
- بي بي سي / العربية ↑
- مركز مناصحة, https://t.me/mnasaha1 ↑
- موقع dw الألمانية / https://bit.ly/3IHSNQe ↑
- موقع bbcالبريطانية / https://bbc.in/3yQlp5n ↑
- من مقالة: ظاهرة الشذوذ في العالم العربي (الأسباب والنتائج وآليات الحل), د. نهى قاطرجي, نشرت في مجلة البيان العدد 271، ربيع الأول 1431هـ ↑
- المثلية الجنسية, د.نهى قاطرجي, ص: 118 ↑
- دكتاتورية المستنيرين, أولغا تشيتفيريكوفا, ص: 202 ↑
- موسوعة ويكيبيديا ↑
- المثلية الجنسية الرضائية بين التجريم والإباحة, عبد الإله النوايسة, ص: 277 ↑
- نفس المصدر السابق, 203 ↑
- موقع bbc / https://bbc.in/3yT9uno ↑
- المثلية الجنسية, نهى قاطرجي, ص: 91 ↑
- المثلية الجنسية بين الإسلام والعلمانية, أحمد طه, ص: 70 ↑