معنى ومفهوم تدبر القرآن

348

{مفهوم تدبر القرآن}

معنى تدبر القرآن:

لغةً: قال الزجاج: التدبر: النظر في عاقبة الشيء.[1]

اصطلاحاً: قال الشيخ عبد الرحمن حبنكة رحمه الله: هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة”.[2]

قال الطاهر بن عاشور رحمه الله: وَالتَّدَبُّرُ: التَّفَكُّرُ وَالتَّأَمُّلُ الَّذِي يَبْلُغُ بِهِ صَاحِبُهُ مَعْرِفَةَ الْمُرَادِ مِنَ الْمَعَانِي، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ قَلِيلِ اللَّفْظِ كَثِيرِ الْمَعَانِي الَّتِي أُودِعَتْ فِيهِ بِحَيْثُ كُلَّمَا ازْدَادَ المتدبر تدبرا انكشفت لَهُ مَعَانٍ لَمْ تَكُنْ بادية لَهُ بادىء النَّظَرِ.[3]

وفي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الْبَقَرَة: 121] أَي التِّلَاوَة الْحَقِيقَة بِاسْمِ التِّلَاوَةِ وَهِيَ التِّلَاوَةُ بِفَهْمِ مَعَانِي الْمَتْلُوِّ وَأَغْرَاضِهِ.[4]

ما هي الأمور التي يشملها تدبر القرآن؟

1_ الوقوف على معاني الألفاظ ومعرفة المقصود بها.

2_ التفكر والتأمل في ما ترشد إليه الآيات من خلال سياقها.

3_أن يتعظ العقل بحججه ويتحرك القلب ببشائره وزواجره.

4_ الانقياد والخضوع والاستجابة لأوامره والتصديق والإيمان بأخباره.[5]

الفرق بين التدبر والتفسير[6]:

التفسير التدبر
هو الكشف عن معاني القرآن الكشف عن معاني القرآن, والتفكير العميق, والنظر في العواقب.
التفسير أساس التدبر ثمرة
غاية علم التفسير فهم المعنى غاية علم التدبر الاهتداء والعمل
واجب العلماء واجب الأمة
لا يقال لمن طبق القرآن مفسر يقال لمن طبق القرآن متدبر, لأن التدبر فيه جانب عملي.

أقسام المؤمنين في التدبر:

1- تدبر عامة المسلمين: والمقصود به النظر في القرآن والعمل به, وهذا واجب على كل مسلم بحسب طاقته.

2 – تدبر العلماء: والمقصود به النظر في القرآن بحسب ما أوتوا من علوم شرعية ولغوية.

3_ تدبر أهل التخصص: هو أن يستنبط كل متخصص في فن (كاللغة والفن والسياسة..) وقفات لا يجدها غيره.

4_ تدبر أهل الإيمان: والمقصود به هو التدبر الذي يحصل للمؤمن نتيجة ارتفاع إيمانه, وخلوته مع ربه سبحانه وتعالى, فهذا القسم مستحب وليس بواجب.[7]

المقصود من التلاوة التدبر:

قال الغزالي رحمه الله: وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْقِرَاءَةِ التَّدَبُّرُ, وَلِذَلِكَ سن لأن الترتيل فيه التَّرْتِيلَ فِي الظَّاهِرِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ التَّدَبُّرِ بِالْبَاطِنِ.[8]

قال ابن تيمية رحمه الله: وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ فَهْمُ مَعَانِيهِ دُونَ مُجَرَّدِ أَلْفَاظِهِ فَالْقُرْآنُ أَوْلَى بِذَلِكَ. وَأَيْضًا فَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يَقْرَأَ قَوْمٌ كِتَابًا فِي فَنٍّ مِنَ الْعِلْمِ كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَلَا يَسْتَشْرِحُونَهُ فَكَيْفَ بِكَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ عِصْمَتُهُمْ وَبِهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ وَقِيَامُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. [9]

قال ابن القيم رحمه الله: وَأَمَّا التَّأَمُّلُ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ تَحْدِيقُ نَاظِرِ الْقَلْبِ إِلَى مَعَانِيهِ، وَجَمْعُ الْفِكْرِ عَلَى تَدَبُّرِهِ وَتَعَقُّلِهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِإِنْزَالِهِ، لَا مُجَرَّدُ تِلَاوَتِهِ بِلَا فَهْمٍ وَلَا تَدَبُّرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} [ص: 29].[10]

صفة التدبر:

قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [مُحَمَّدٍ: 24]

قال السيوطي رحمه الله: وَصِفَةُ ذَلِكَ أَنْ يَشْغَلَ قَلْبَهُ بِالتَّفْكِيرِ فِي مَعْنَى مَا يَلْفِظُ بِهِ فَيَعْرِفُ مَعْنَى كُلِّ آيَةٍ وَيَتَأَمَّلُ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ وَيَعْتَقِدُ قَبُولَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مِمَّا قَصَّرَ عَنْهُ فِيمَا مَضَى اعْتَذَرَ وَاسْتَغْفَرَ وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ اسْتَبْشَرَ وَسَأَلَ أَوْ عَذَابٍ أَشْفَقَ وَتَعَوَّذَ أَوْ تَنْزِيهٍ نَزَّهَ وَعَظَّمَ أَوْ دُعَاءٍ تَضَرَّعَ وَطَلَبَ.[11]

وذكر ابن القيم رحمه الله قاعدةً جليلة في شَرط الانتفاع من القرآن في كتابه الفوائد فقال: قاعدة جليلة: إذا أردتَ الانتفاعَ بالقرآن فاجمع قلبَك عند تلاوته وسماعه، وألقِ سمعَك واحضر حُضُورَ مَن يخاطبه به من تكلَّم به سُبحانه منه إليه، فإنَّه خطاب منه لك على لسان رسوله، قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]؛ وذلك أنَّ تمام التَّأثير لمَّا كان موقُوفًا على مُؤثِّر مُقتضٍ، ومحلٍّ قابِل، وشرطًا لحُصول الأثَر وانتفاء المانِع الذي يَمنع منه، تضمَّنَت الآية بيانَ ذلك كله بأوجَز لَفظ وأبيَنه وأدله على المُراد، فقوله: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى ﴾ [ق: 37]؛ إشارة إلى ما تقدَّم من أول السُّورة إلى ها هنا؛ وهذا هو المؤثِّر، وقوله: ﴿ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾ [ق: 37]؛ فهذا هو المحلُّ القابِل، والمراد به القلب الحيُّ الذي يَعقل عن الله؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ﴾ [يس: 69، 70]؛ أي: حي القَلب، وقوله: ﴿ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ﴾ [ق: 37]؛ أي: وجَّه سمعَه وأصغى حاسَّة سَمعه إلى ما يُقال له؛ وهذا شرط التأثُّر بالكلام، وقوله: ﴿وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]؛ أي: شاهد القلب حاضر.[12]

التدبر العقلي والروحي:

قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء82], {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد24]

قال الأستاذ محمد إلهامي: أحسب والله أعلم أن التدبر الأول هو تدبر عقلي فكري، يبصر النظام والتماسك والانسجام في كتاب الله، ويعرف بعد التدبر أن هذا الانتظام لا يمكن أن يكون من قول البشر، فالبشر كم يختلف كلامهم مع بعضهم، بل كم يختلف كلام الوحد منهم ويتناقض لزيادة في العلم والخبرة أو لتغير في المشاعر كالرضا والغضب.

وأن التدبر الثاني هو تدبر قلبي روحي عاطفي، يرى في كلام الله حسن الدخول إلى النفوس والإمساك بأرجاء القلوب والضغط على أوتار المشاعر، فكأن القلب وهو يقرأ القرآن في حالة شعورية قاهرة من جماله وحُسن بيانه ورقيق معانيه, فلا ينغلق كل هذا على قلب إلا وكأنه قلبٌ قد أغلق ثم وضعت عليه الأقفال فلا يستقبل من الجمال شيئا.[13]

معنى ثقل القرآن:

قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا} [المزمل: 5]

قال عبد الرحمن حسن حبنكة رحمه الله: إن المعنى الذي ينبغي المصير إليه بثقل القول القرآني هو غزارة معانيه مع قلة ألفاظه, وثقل جواهر المعني التي يشتمل عليها.

إن آية واحدة مؤلفة من بضع كلمات يُستخرج منها معاني يحتاج شرحها وبيانها مئات الكلمات ويظل فيها وفر عظيم, وهذا من ثقلها وقد وصف الله عز وجل السحاب المليء بما ينفع الناس بأنها سحاب ثقال.[14]

قَالَ الْفَرَّاءُ رحمه الله : «ثَقِيلًا لَيْسَ بِالْكَلَامِ السَّفْسَافِ» . وَحَسْبُكَ أَنَّهُ حَوَى مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ مَا لَا يَفِي الْعَقْلُ بِالْإِحَاطَةِ بِهِ فَكَمْ غَاصَتْ فِيهِ أَفْهَامُ الْعُلَمَاءِ مِنْ فُقَهَاءَ وَمُتَكَلِّمِينَ وَبُلَغَاءَ وَلُغَوِيِّينَ وَحُكَمَاءَ فَشَابَهَ الشَّيْءَ الثَّقِيلَ فِي أَنَّهُ لَا يَقْوَى الْوَاحِدُ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ بِمَعَانِيهِ.[15]

ثمار التدبر:

1_معرفة الرب عز وجل:

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ رحمه الله: أَلا تَرَوْنَ رَحِمَكُمْ اللهُ إِلَى مَوْلاكُمْ الْكَرِيْمِ؛ كَيْفَ يَحُثُّ خَلْقَهَ عَلَى أَنْ يَتَدَبَّرُوا كَلامَه ، وَمَنْ تَدَبَّرَ كَلامَهُ عَرَفَ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ ، وَعَرَفَ عَظِيمَ سُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ.[16]

قال ابن القيم رحمه الله: فَلَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ، وَجَمْعِ الْفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ، فَإِنَّهَا تُشْهِدُهُ عَدْلَ اللَّهِ وَفَضْلَهُ، وَتُعَرِّفُهُ ذَاتَهُ، وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ، وَمَا يُحِبُّهُ وَمَا يُبْغِضُهُ، وَصِرَاطَهُ الْمُوصِلَ إِلَيْهِ، وَمَا لِسَالِكِيهِ بَعْدَ الْوُصُولِ وَالْقُدُومِ عَلَيْهِ.[17]

2_تذوق حلاوة القرآن:

قال ابن القيِّم رحمه الله: فلو عَلِمَ النَّاس ما في قراءة القرآن بالتَّدبُّر، لاشتغلوا بها عن كلِّ ما سواه، فإذا قرأه بتفكُّر حتَّى إذا مرَّ بآيةٍ ـ وهو محتاج إليها في شفاء قلبه ـ كرَّرها ولو مائة مرَّة، ولو ليلة، فقراءة آيةٍ بتفكُّر وتفهُّم، خير من قراءة ختمةٍ بغير تدبُّر وتفهُّم، وأنفعُ للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان، وذوقِ حلاوة القرآن.[18]

قال الزركشي رحمه الله : الآيةُ مِثْلُ التَّمرة، كلَّما مضغتَها استخرجتَ حلاوتها.[19]

3_في تدبر القرآن صقلاً للمواهب، وتنميةً للقدرات العقليَّة:

فتنمو فيه قوَّة الملاحظة، ومَلَكَة التَّفكير، وترتفع قدرته على معالجة الأمور، ويصبح حَكَماً عاقلاً عند اختلاف الآراء والأفكار، كما قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9].[20]

يقول سيد قطب رحمه الله: إن الناس يخسرون الخسارة التي لا يعارضها شيء بالانصراف عن هذا القرآن. وإن الآية الواحدة لتصنع أحيانا في النفس حين تستمع لها وتنصت أعاجيب من الانفعال والتأثر والاستجابة والطمأنينة والراحة والنقلة البعيدة في المعرفة الواعية المستنيرة مما لا يدركه إلا من ذاقه وعرفه.[21]

4_ يحمي من حماقة التفكير:

قال الشعراوي رحمه الله: والحق سبحانه هو القائل: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24] أي: لا تنظر إلى واجهة الآية فقط، بل انظر في أعماقها، ولذلك يقول لنا سيدنا عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «ثَوِّروا القرآن». أي: استخرجوا منه الكنوز بالتدبُّر؛ لأن التدبر يحمي من حماقة التفكير.[22]

الأمور المعينة على التدبر:

1 ـ تحسين التِّلاوة صوتا وإتقانا وتمهلا:

إن الذي يقرأ القرآن بالتجويد يكون محافظا على نظام القرآن الصوتي, وعلى جمال القرآن اللغوي والبلاغي, وهذا مما يعين على التدبر, لأنه يظهر إعجاز هذا القرآن وجمال بلاغته.

قال الشيخ محمد الزرقاني: ونريد بنظام القرآن الصوتي اتساق القرآن وائتلافه في: حركاته وسكناته ومداته وغناته واتصالاته وسكتاته, اتساقا عجيبا, وائتلافا رائعا, يسترعي الأسماع ويستهوي النفوس, بطريقة لا يمكن أن يصل إليها أي كلام آخر من منظوم ومنثور.

ونخلص أن القارئ المجود يجذب القلوب ويأخذ الألباب ويسلب العقول, فتتلذذ الأسماع بتلاوته, وتخشع القلوب عند قراءته, وهذا أمر مشاهد ملموس, وقد يسميه بعضهم بالإعجاز الصوتي لتلاوة القرآن.[23]

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} أَيِ: اقْرَأْهُ عَلَى تَمَهُّلٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَوْنًا عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ. وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَأُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ يَقْرَأُ السُّورَةَ فَيُرَتِّلُهَا، حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلِ مِنْهَا.[24]

وكذلك حثَّ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم على التَّغنِّي بالقراءة وتحسينها، في قوله: “لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرآنِ”.[25]

وهذا الترتيل للقرآن والتغني به يُعين تدبره وتفهمه.

قال ابن كثير رحمه الله: المطلوب شرعاً، إنَّما هو التَّحسين بالصَّوت، الباعث على تدبُّر القرآن وتفهُّمه، والخشوع والخضوع، والانقياد للطَّاعة.[26]

2_ حسن الوقف والابتداء:

لَمَّا لَمْ يُمْكِنِ لِلْقَارِئِ أَنْ يَقْرَأَ السُّورَةَ، أَوِ الْقِصَّةَ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَجْرِ التَّنَفُّسُ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ حَالَةَ الْوَصْلِ، بَلْ ذَلِكَ كَالتَّنَفُّسِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلِمَةِ وَجَبَ حِينَئِذٍ اخْتِيَارُ وَقْفٍ لِلتَّنَفُّسِ وَالِاسْتِرَاحَةِ وَتَعَيَّنَ ارْتِضَاءُ ابْتِدَاءٍ بَعْدَ التَّنَفُّسِ وَالِاسْتِرَاحَةِ، وَتَحَتَّمَ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا يُخِلُّ بِالْمَعْنَى وَلَا يُخِلُّ بِالْفَهْمِ، إِذْ بِذَلِكَ يَظْهَرُ الْإِعْجَازُ وَيَحْصُلُ الْقَصْدُ; وَلِذَلِكَ حَضَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى تَعَلُّمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ مَا قَدَّمْنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَوْلُهُ: “التَّرْتِيلُ مَعْرِفَةُ الْوُقُوفِ وَتَجْوِيدُ الْحُرُوفِ”.[27]

إن فهم معاني القرآن الكريم ومقاصده عامل مهم في تدبر آياته, والوقف والابتداء هو عنوانه ودليلها, ففي معرفة الوقف والابتداء تبيين معاني القرآن العظيم وتعريف مقاصده, وإظهار فوائده.[28]

3 – قراءة اللَّيل:

صلاةُ اللَّيل والقراءة فيه؛ يعين على فهمه، وفي

ذلك يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً﴾ [المزمل: 6].

قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿وَأَقْوَمُ قِيلاً﴾: «هُوَ أَجْدَرُ أَنْ يَفْقَهَ في القُرآنِ».[29]

قال الطاهر بن عاشور رحمه الله: والمعنى: أنَّ صلاة اللَّيل أوفقُ بالمصلِّي بين اللِّسان والقلب، أي بين النُّطق بالألفاظ، وتفهُّم معانيها؛ للهدوء الذي يحصل في اللَّيل، وانقطاع الشَّواغل… وأعون على المزيد من التَّدبُّر.[30]

عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ” لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَآنَاءَ النَّهَارِ”.[31]

وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ لَا غِبْطَةَ مَحْبُوبَةٌ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ.[32]

4 ـ الإنصات عند سماعه:

أمَرَ الله تعالى عبادَه المؤمنين بالاستماع والإنصات عند قراءة القرآن؛ كي ينتفعوا به، ويتدبَّروا ما فيه من الحِكَم والمصالح، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204].

قال الطَّبري رحمه الله: أصْغُوا سمعَكم؛ لتتفهَّموا آياته، وتعتبروا بمواعظه، وأنصتوا إليه؛ لتعقلوه، وتتدبَّروه…؛ ليرحَمَكم ربُّكم باتِّعاظكم بمواعظه، واعتباركم بِعِبَرِه.[33]

هذا الأمر عام في كل من سمع كتاب الله يتلى، فإنه مأمور بالاستماع له والإنصات، والفرق بين الاستماع والإنصات، أن الإنصات في الظاهر بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه.

وأما الاستماع له، فهو أن يلقي سمعه، ويحضر قلبه ويتدبر ما يستمع، فإن من لازم على هذين الأمرين حين يتلى كتاب الله، فإنه ينال خيرا كثيرا وعلما غزيرا، وإيمانا مستمرا متجددا، وهدى متزايدا، وبصيرة في دينه.[34]

5_تكرار الآية:

عن عبَّاد بن حمزة رحمه الله قال: “دخلتُ على أسماءَ رضي الله عنها وهي تقرأ: ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ [الطور: 27]، فَوَقَفَتْ عليها، فجعَلَتْ تستعيذُ وتدعو، قال عبَّاد: فذهبتُ إلى السُّوق فقضيتُ حاجتي، ثمَّ رجعتُ، وهي فيها بَعْدُ، تستعيذُ وتدعو”.[35]

قال النَّووي رحمه الله: وقد بات جماعة من السَّلف، يتلو الواحد منهم الآيةَ الواحدة، ليلةً كاملةً أو معظَمَها، يتدبَّرها عند القراءة.[36]

وقال ابن القيِّم رحمه الله: وهذه كانت عادة السَّلف، يردِّد أحدُهم الآيةَ إلى الصَّباح.[37]

قَالَ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَا فِقْهَ فِيهَا وَلَا فِي قِرَاءَةٍ لَا تَدَبُّرَ فِيهَا, وَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّدَبُّرِ إِلَّا بِتَرْدِيدٍ فَلْيُرَدِّدْ.[38]

من موانع التدبر:

1_ التكبر:

قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [ الأعراف: 146]

قال عبد الرحمن حسن حبنكة رحمه الله: هذه الآية تدل على سنة من سنن الله الدائمة في عباده, وهي إحدى أنظمة التكوين للنفس الإنسانية. أي سأحول وأرد عن إدراك آياتي أو عن الاستجابة لما توجه له الذين يتكبرون متعاظمين على نظرائهم من خلق الله تكبرا بدوافع نفسية باطلة.

قال ابن كثير رحمه الله: أَيْ: سَأَمْنَعُ فهم الحجج وَالْأَدِلَّةِ عَلَى عَظْمَتِي وَشَرِيعَتِي وَأَحْكَامِي قُلُوبَ الْمُتَكَبِّرِينَ عَنْ طَاعَتِي، وَيَتَكَبَّرُونَ عَلَى النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَيْ: كَمَا اسْتَكْبَرُوا بِغَيْرِ حَقٍّ أَذَلَّهُمُ اللَّهُ بِالْجَهْلِ.

وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا يَنَالُ الْعِلْمَ حَيِيٌّ وَلَا مُسْتَكْبِرٌ.[39]

2_ انشغال القلب:

قال ابن القيم رحمه الله: فإذا حصل المؤثِّر: وهو القرآن. والمَحَلُّ القابل: وهو القلبُ الحي. وَوُجِدَ الشَّرط: وهو الإصغاء. وانتفى المانع: وهو اشتغالُ القلب وذهولُه عن معنى الخطاب، وانصرافُه عنه إلى شيءٍ آخَرَ؛ حَصَلَ الأَثَرُ: وهو الانتفاعُ والتَّذكُّر.[40]

3_ الإصرار على الذُّنوب:

قال ابن قدامة رحمه الله: ولْيتخلَّ التَّالي عن موانع الفهم، ومن ذلك: أن يكون مُصِرّاً على ذنبٍ، أو متَّصفاً بِكِبْرٍ، أو مبتلى بهوىً مطاع، فإنَّ ذلك سببُ ظلمةِ القلب وصدئه، فالقلب مثلُ المرآة، والشَّهواتُ مِثْل الصَّدأ، ومعاني القرآن مِثْلُ الصُّوَرِ التي تتراءى في المرآة، والرِّياضة للقلب بإماطة الشَّهوات مِثْل جلاء المرآة. [41]

وقال بعض السلف: أذنبت ذنباً فحرمت قيام الليل سنة. وقال آخر: أذنبت ذنباً فحرمت فهم القرآن.[42]

4_الغناء:

قال ابن القيم رحمه الله: فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه كنبات الزرع بالماء. فمن خواصه: أنه يلهى القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة، ومجانبة شهوات النفوس، وأسباب الغى، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك كله، ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغى فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح.[43]

5_الجهل باللُّغة العربيَّة:

قال ابن كثير رحمه الله: أنزل الله عزّ وجل القرآن العظيم بلسان عربيٍّ مبين، كما قال جلَّ جلالُه: {وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) }[الشعراء: 192-195]. وسبب تنزُّله باللُّغة العربيَّة: هو أنَّها أفصح اللُّغات، وأبينُها، وأوسعُها، وأكثرُها تأديةً للمعاني التي تقوم بالنُّفوس؛ فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللُّغات.[44]

وليس المطلوب استغراق المتدبر في كتب النحو والإعراب والبلاغة ونحو ذلك بل يكتفى بالحصول على المستوى الذي يمكنه من فهم وتدبر القرآن. وإلا كان الاستغراق في ذلك حائلا بينه وبين التدبر صارفا له عن الغاية التي لأجلها طرق هذا الباب.[45]

6_ التَّشاغل بكثرة التِّلاوة والإسراع بها:

عن عَبدِ اللهِ أنَّ رجُلًا أتاه فقال: قرَأتُ المُفَصَّلَ في رَكعةٍ. فقال: بل هَذَذتَ كهَذِّ الشِّعرِ، أو كنَثرِ الدَّقَلِ، لكِنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يفعَلْ كما فعَلتَ، كانَ يَقرأُ النَّظائرَ: الرَّحَمنَ، والنَّجمَ في رَكعةٍ. قال: فذكَرَ أبو إسحاقَ عشْرَ رَكَعاتٍ بعشرينَ سورةً على تأليفِ عبدِ اللهِ، آخِرُهنَّ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ…} [سورة التكوير] والدُّخانَ. “.[46]

تَهُذُّهُ هَذًّا وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ وَهُوَ شِدَّةُ الْإِسْرَاعِ وَالْإِفْرَاطِ فِي الْعَجَلَةِ فَفِيهِ النَّهْيُ عَنِ الْهَذِّ وَالْحَثُّ عَلَى التَّرْتِيلِ وَالتَّدَبُّرِ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.[47]

قال ابن الجوزي رحمه الله: وقد لبس عَلَى قوم بكثرة التلاوة فهم يهزون هزا من غير ترتيل ولا تثبت وهذه حالة ليست بمحمودة وَقَدْ روى عَنْ جماعة من السلف أنهم كانوا يقرأون القرآن فِي كل يوم أَوْ فِي كل ركعة وهذا يكون نادرا منهم ومن داوم عَلَيْهِ فإنه وان كان جائزا إلا أن الترتيل والتثبت أحب إِلَى العلماء وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لا يفقه من قرأ القرآن فِي أقل من ثلاث”.[48]

والدقل: الرديء اليابس من التمر, والمراد أن القارئ يرمي بكلمات القرآن من غير رؤية وتأمل كما يتساقط الدقل من العذق إذا هز.[49]

7_توهم صعوبة فهم القرآن:

الكثير من المسلمين اليوم يعتقدون صعوبة فهم القرآن، وهذا الأمر من تلبيس الشيطان ومكائده ليصرف العقول والقلوب عن تفهم معاني القرآن وصرفهم عن الغاية التي لأجلها أنزل القرآن فهو كتاب هدى ورحمة وتربية للنفس وترقي بها.[50]

فالله عز وجل يقول في كتابه الكريم: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}{سورة الدخان، 58} يقول القرطبي في تفسيره: أي: القرآن. يعني بينّاه بلسانك العربي وجعلناه سهلاً على من تدبره وتأمله. وقيل أنزلناه عليك بلسان العرب ليسهل عليهم فهمه.[51]

وقد نقل ابن رجب الحنبلي رحمه الله أقوال طائفة منهم في ذلك ومنه ما قاله ابن هبيرة رحمه الله: ومن مكايد الشيطان تنفيره عباد الله من تدبر القرآن، لعلمه أن الهدى واقع عند التدبر، فيقول هذه مخاطرة حتى يقول الإنسان أنا لا أتكلم في القرآن تورعا.[52]

  1. زاد المسير لابن الجوزي, 2/72
  2. قواعد التدبر الأمثل, ص:4
  3. التحرير والتنوير, 23/252
  4. نفس المصدر السابق
  5. قصد السبيل إلى تدبر آيات الذكر الحكيم, أيمن عبد الغني, ص: 546
  6. تثوير الجنان في تدبر آي القرآن, الفريق العلمي لمركز تدبر, ص: 34
  7. تثوير الجنان في تدبر آي القرآن, الفريق العلمي لمركز تدبر, ص: 15
  8. الإحياء, 1/282
  9. مجموع الفتاوى, 13/ 332
  10. مدارج السالكين, 1/449
  11. الإتقان في علوم القرآن, 1/369
  12. الفوائد لابن القيم, ص:3
  13. محمد إلهامي, https://t.me/melhamy/1860
  14. معارج التفكر ودقائق التدبر, ص: 163
  15. التحرير والتنوير, 29/262
  16. أخلاق حملة القرآن للآجري, ص: 3
  17. مدارج السالكين, 1/450
  18. مفتاح دار السعادة, 1/187
  19. البرهان في علوم القرآن, 1/471
  20. دعوة إلى تدبر القرآن الكريم، ص: 197.
  21. في ظلال القرآن, 3/ 1426
  22. تفسير الشعراوي, 21/7184
  23. أثر القراءة بالتجويد في تدبر القرآن المجيد, ص: 80
  24. صحيح مسلم, (733)
  25. صحيح البخاري, (7527)
  26. فضائل القرآن, 195
  27. النشر لابن الجزري, 1/225
  28. أثر القراءة بالتجويد في تدبر القرآن المجيد, ص: 120
  29. رواه أبو داود، (2 /32) بسند حسن
  30. التحرير والتنوير, 29/263
  31. صحيح مسلم, (815)
  32. شرح النووي على مسلم, 6/97
  33. تفسير الطبري, 13/345
  34. تفسير السعدي, ص:314
  35. رواه ابن أبي شيبة في (مصنفه)، (2 /25)، (رقم 6037)
  36. الأذكار, ص: 50
  37. مفتاح دار السعادة, 1/187
  38. إحياء علوم الدين, 1/282
  39. تفسير ابن كثير, 3/475
  40. الفوائد, ص: 1
  41. مختصر منهاج القاصدين، ص 56-57.
  42. طريق الهجرتين لابن القيم, 1/271
  43. إغاثة اللهفان, 1/249
  44. تفسير ابن كثير, 4/365
  45. بتصرف عن: صلاح عبدالفتاح الخالدي، مفاتيح للتعامل مع القرآن، ص 82
  46. مسند أحمد, وصححه أحمد شاكر, تخريج المسند, 6/30
  47. شرح النووي على مسلم, 6/104
  48. تلبيس إبليس, 1/128
  49. أثر القراءة بالتجويد في تدبر القرآن المجيد, ص: 44
  50. خالد عبدالكريم اللاحم، مفاتح تدبر القرآن والنجاح في الحياة، ص 16.
  51. القرطبي, 11/162
  52. ذيل طبقات الحنابلة, 3/156
Leave A Reply

Your email address will not be published.