من صور البعد عن القرآن الكريم

368

 {من صور البعد عن القرآن الكريم}

هجر التلاوة:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ”.[1]

قال البيضاوي رحمه الله: أي كالمقابر خالية عن الذكر والطاعة، واجعلوا لها نصيبًا من القراءة والصلاة.[2]

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: “إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْهُ شَيْئًا فَلْيَفْعَلْ، فَإِنَّ أَصْفَرَ الْبُيُوتِ مِنَ الْخَيْرِ الْبَيْتُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى شَيءٌ، وَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ شَيءٌ خَرِبٌ كَخَرَابِ الْبَيْتِ الَّذِي لَا عَامِرَ لَهُ”.[3]

الصفر: الخالي.

عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مثلُ المؤمنِ الَّذي يقرأُ القرآنَ كالأُتْرُجَّةِ طعمُها طيِّبٌ وريحُها طيِّبٌ والَّذي لا يقرأُ كالتَّمرةِ طعمُها طيِّبٌ ولا ريحَ لها ومثلُ الفاجرِ الَّذي يقرأُ القرآنَ كالرَّيْحانةِ ريحُها طيِّبٌ وطعمُها مُرٌّ ومثلُ الفاجرِ الَّذي لا يقرأُ القرآنَ كمثلِ الحنظلةِ طعمُها مرٌّ وريحُها مرٌّ “.[4]

قال ابن حجر رحمه الله: قِيلَ الْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ الْأُتْرُجَّةِ بِالتَّمْثِيلِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْفَاكِهَةِ الَّتِي تَجْمَعُ طِيبَ الطَّعْمِ وَالرِّيحِ كَالتُّفَّاحَةِ لِأَنَّهُ يُتَدَاوَى بِقِشْرِهَا وَقِيلَ إِنَّ الْجِنَّ لَا تَقْرَبُ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الْأُتْرُجَّ فَنَاسَبَ أَن يمثل بِهِ الْقُرْآن الَّذِي لَا تقر بِهِ الشَّيَاطِينُ وَغِلَافُ حَبِّهِ أَبْيَضُ فَيُنَاسِبُ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ وَفِيهَا أَيْضًا مِنَ الْمَزَايَا كِبَرُ جُرْمِهَا وَحُسْنُ مَنْظَرِهَا وَتَفْرِيحُ لَوْنِهَا وَلِينُ مَلْمَسِهَا وَفِي أَكْلِهَا مَعَ الِالْتِذَاذِ طِيبُ نَكْهَةٍ وَدِبَاغُ مَعِدَةٍ وَجَوْدَةِ هَضْمٍ وَلَهَا مَنَافِعُ أُخْرَى.[5]

ما زال أهل العلم يحثون المسلم على الإكثار من ختم القرآن الكريم ، والإكثار من قراءته وتدبره، فهو كلام الله المتعبد بتلاوته، الذي يحب عز وجل أن يُتقرب به إليه.

وقد كانت همم السلف رحمهم الله على أنواع شتى:

فمنهم من كان يختم في كل يوم مرة، ومنهم في ثلاث ، ومنهم في أسبوع ، ومنهم من كان يختم في كل شهر مرة، ولعل الختم في كل شهر مرة هو أدنى الهمم التي لا ينبغي للمؤمن أن يضعف عنها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: ” اقرأ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ”[6] تحت باب: “في كم يقرأ القرآن”.

قال ابن حزم رحمه الله: يستحب للمسلم الذي يطلب النجاة أن يأتي بما لعله أن يوازي ذنوبه ويوازن سيئاته، وأن يواظب على قراءة القرآن فيختمه في كل شهر مرة، فإن ختمه في أقل فحسن.[7]

بل نص فقهاء الحنابلة على أنه: (يكره تأخير الختم فوق أربعين بلا عذر ) قال أحمد: أكثر ما سمعت أن يختم القرآن في أربعين، ولأنه يفضي إلى نسيانه والتهاون به.[8]

وجاء في نصيحة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه لقراء البصرة: “فَاتْلُوهُ، وَلَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الْأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ، كَمَا قَسَتْ قُلُوبُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ”.[9]

هجر الاستماع:

قال الله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 204] قال الليث رحمه الله: يُقَال: ما الرحمة إلى أحد بأسرع منها إلى مستمع القرآن، لقول الله جل ذكره: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 204] و (لعل) من الله واجبة.[10]

قال الحسن البصري رحمه الله: إذا جلست إلى القرآن فأنصت له.[11]

قال ابن القيم رحمه الله: وحقيقة السماع تنبيه القلب على معاني المسموع وتحريكه عنها طلباً أو هرباً، وحباً أو بغضاً.[12]

قال الشيخ عبد العظيم بن بدوي: (ولقد أمر الله – سبحانه – النبيين وأتباعهم المؤمنين بالاستماع للوحي عند تلاوته ونهاهم عن الانشغال عن الاستماع لما يوحي بأي شيء ولو بتلاوة الوحى نفسه، قال تعالى لموسى عليه السلام: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} (13) سورة طه، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا قرأ عليه جبريل القرآن القرآن تعجل بالقراءة خلفه خشية النسيان، فقال الله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [الْقِيَامَةِ: 16-19], وقال للمؤمنين: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، لأنه بالاستماع يحصل الفهم المؤدي للعم.[13]

وقال ابن القيم رحمه الله موضحاً أقسام الناس في سماع القرآن والغناء.

والناس في السماع أربعة أقسام:

أحدها: مَنْ يشتغل بسماع القرآن عن سماع الشيطان.

الثاني: عكسه (مَنْ يشتغل بسماع الشيطان عن سماع القرآن).

الثالث: مَنْ له نصيب من هذا وهذا.

الرابع: ليس له نصيب لا من هذا ولا من هذا.

فالاشتغال بسماع القرآن الرحماني حال السابقين الأولين وأتباعهم ومن سلك سبيلهم.

والثاني: حال المشركين والمنافقين والفجار والفساق والمبطلين ومَنْ سلك سبيلهم.

والثالث: حال مؤمن له مادتان: مادة من القرآن ومادة من الشيطان، وهو للغالب عليه منها.

والرابع: حال الفارغ من ذوق هذا وهذا، فهو في شأن وأولئك في شأن).[14]

س: هل يجوز الاشتغال بعمل آخر سواء مذاكرة أو قراءة … ويوجد في نفس المكان مسجل يقرأ القرآن؟

جـ – قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام: الاشتغال عن السماع بالتحدث بما لا يكون أفضل من الاستماع سوء أدب على الشرع، وهو يقتضي أن لا بأس بالتحدث للمصلحة.[15]

الانشغال بطلب العلم عنه:

قال الليث بن سعد: إنما يُرفع القرآن حين يقبل الناس على الكتب، ويكبون عليها، ويتركون القرآن.[16]

دخل أحد فقهاء مصر على الإمام الشافعي رحمه الله في المسجد وبين يديه المصحف، فقال له الشافعي: شغلكم الفقه عن القرآن! إني لأصلي العتمة وأضع المصحف في يدي فما أطبقه حتى الصبح.[17]

من هنا نقول بأننا لا نريد الاستغناء بالقرآن عن السنة، أو عن كتب العلم المختلفة، ولا نريد الانشغال بغير القرآن على حساب القرآن، بل نريد الأمرين معًا، على أن يُعطي القرآن الأولوية.[18]

المرور السريع على الآيات أو تجاوزها عند المرور عليها عند المطالعة:

يقول الدكتور مجدي الهلالي: اختبر نفسك عند القراءة في أي موضوع. سواء كان في جريدة أو كتاب أو غيره. وتأمل ما يحدث لك عندما يأتي في سياق الكلام آية أو بضع آيات قرآنية يستشهد بها الكاتب للتدليل على كلامه.. هل ستقرؤها مثلما تقرأ باقي الكلام من حيث الاهتمام ومحاولة الفهم وربطها بما سبق من فقرات أم أنك ستمر عليها بالقراءة السريعة؟ أم ستتجاوزها بعينيك وتقفز إلى الفقرة التي تليها؟!!

قم – أخي – بإجراء هذا الاختبار عدة مرات. وسجل ما يحدث لك. وساعتها ستعرف الحقيقة.

وستتأكد أننا نهتم بكلام البشر أكثر من اهتمامنا بكلام الله. وليس أدل على ذلك من تلك الصعوبة التي نواجهها ونحن نُكره أنفسنا على قراءة الآيات القرآنية التي تتضمنها صفحات أي كتاب أو مقال نطلع عليه. وفي كثير من الأحيان نتجاوزها. وبخاصة إذا كانت طويلة. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

ومن المبكيات أن تجد بعض المؤلفين يستحث القارئ أن يصبر على قراءة الآيات التي يتضمنها كتابه. وألا يمل منها لأنها ذات صلة بالوحدة الموضوعية لمادة الكتاب. فهذا سيد

قطب – رحمه الله – يقول في بدايات كتابه (مقومات التصور الإسلامي):

فقارئ هذا البحث لابد له أن يدرس النصوص القرآنية المطولة فيه باعتبارها هي الأصل.. إنها لم تجيء هنا للاستشهاد.. إنما جاءت للتحدث هي بذاتها عن الحقيقة. وعبارتنا حولها هي العنصر الإضافي. ولابد أن يصبر على تملي هذه النصوص كلمة كلمة. فلا يتخطاها حتى لو كان ممن يحفظون القرآن من قبل.

وفي كتابه (صحيح السيرة النبوية) يلح محمد رزق الطرهوني على هذا الطلب فيقول تحت

عنوان “ملحوظة هامة”:

آمل من القارئ الكريم أن يصبر على تلاوة ما يأتيه في هذا الجزء وما يليه من آيات القرآن.

وتدبر معانيها. واستشعار ما تُعطي من أحاسيس. ولمح لتوقيت نزولها وما يسبقه وما يتبعه.

فإنني لم أذكرها استزادة في حجم الكتاب. بل هي أساس في مادة السيرة. بل إن محاجة النبي صلى الله عليه وسلم لمشركي مكة وما قاله لدعوتهم إلى الله يكاد يكون جميعه في القرآن ويستطرد قائلا: “هذه نبذة سريعة آثرت طرحها: لما لمسته من حاجة القراء إلى لفت انتباههم إلها. حتى لا يمروا على الآيات مرورا سريعا. أو يملوا من كثرة سياقها..”.[19]

توسد القرآن:

عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّ شُرَيْحًا الْحَضْرَمِيَّ ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَتَوَسَّدُ الْقُرْآنَ».[20]

عن ابن أيوب قال: سألت أحمد بن صالح عن قوله: لا يتوسد القرآن فقال أحمد: يعني يقوم به الليل، ولاَ ينام.[21]

هجر التحاكم بالقرآن الكريم:

قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } [المائدة:: 50]

قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (5) ] } [ص:26]

قال الحافظ ابن كثير: هذه وصية من الله – عز وجل – لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى، ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله.[22]

قال الشيخ إسماعيل المجذوب:

نشأت في أمتنا منذ عقود يقظة متزايدة بفضل الله تعالى في شباب الأمة ومفكريها إلى ضرورة تحكيم شرع الله تعالى في حياة المسلمين الذي جعل الله تعالى فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.

وسبق هذه اليقظة عقود طويلة عَمً الأمة فيها سبات طويل، وجهل شامل في أمور الدين والدنيا, ولكن قابل هذه اليقظة وهذا التوجه توجه مغاير من قبل بعض أبناء المسلمين المفتونين بالغرب, ورأوا أن ما حصل في الغرب من تقدم في العلوم الكونية والصناعات العلمية وما ترتب عندهم على ذلك من قوة في الاقتصاد والصناعات المختلفة والقوة العسكرية, ورأوا أن ما وصل إليه الغرب من النهضة متعلقاً بما حصل عندهم من إزاحة الدين عن الحكم والسياسة والدراسات والصناعات بعد أن كان مهيمنا على كل شيء في حياتهم, وقلدهم كثير من أبناء المسلمين في نظرتهم إلى الدين, وصاروا يقيسون الإسلام على ما كانت عليه أوربا من التدين في العصور الوسطى وقاموا بالدعوة إلى إزاحة الدين عن حياة المسلمين، وإلى استبدال الأحكام الشرعية بالقوانين الوضعية من أجل أن تنهض الأمة بزعمهم كنهضة الغرب.

وقد كان خطؤهم كبيراً في هذا القياس؛ فهم لا يعرفون كمال الدين الإسلامي الذي هو دين العلم والمعرفة؛ وأن تشريعاته تشمل كل ما يتعلق بالإنسان؛ ولا يعرفون أن القرآن الكريم محفوظ من التغيير والتبديل, ولا يعرفون أنه لا يتناقض مع شيء من حقائق العلم.

ومع هذه الجهالات يغفلون عن أن تشريعات الإسلام هي من عند الله الذي هو الأعلم بمصالح العباد. ويغفلون عن أن البشر في تشريعاتهم عرضة للتأثر بمختلف المؤثرات التي تجعلهم يصيبون ويخطئون.

ويغفلون أيضاً عن أن كثيراً من التصورات التي اعتمدوها عن الإسلام غير صحيحة؛ فليس كل من يتكلم بالإسلام في عصور ضعف الأمة وتخلفها أو في العصر الحاضر أو في العصور الماضية يمثل دين الله تعالى في أفكاره ولا في تصرفاته, وأنه يمكن أن يؤخذ منهم ويترك, وكل منهم يصيب ويخطئ.

ما أحوج شعوب الأرض من المسلمين وغيرهم في هذا العصر إلى أن تظهر لهم حقائق الإسلام وحقائق تشريعاته لتظهر لهم كمالاته وآثاره الطيبة في حياة البشر التي تحقق للإنسان الحياة الكريمة، وسعادة الدنيا والآخرة.

وإن كل خطوة في طريق حرمان البشر من هذه السعادة بإبعاد الناس عن تطبيق شرع الله تعالى في حياتهم خيانة لله تعالى وخيانة للأمة وربما أوصلت صاحبها إلى الكفر والعياذ بالله تعالى.[23]

الاختلاف في القرآن:

عن جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “اقْرَءُوا القُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ”.[24]

قال الإمام النووي رحمه الله: الأمر بالقيام عند الاختلاف في القرآن محمول عند العلماء على اختلاف لا يجوز، أو اختلاف يوقع فيما لا يجوز، كاختلاف في نفس القرآن، أو في معنى منه لا يسوغ فيه الاجتهاد، أو اختلاف يوقع في شك أو شبهة أو فتنة وخصومة أو شجار ونحو ذلك, وأما الاختلاف في استنباط فروع الدين منه، ومناظرة أهل العلم في ذلك على سبيل الفائدة وإظهار الحق، واختلافهم في ذلك، فليس منهيا عنه، بل هو مأمور به، وفضيلة ظاهرة، وقد أجمع المسلمون على هذا من عهد الصحابة إلى الآن.[25]

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله ( فإذا اختلفتم ) أي: في فهم معانيه (فقوموا عنه) أي: تفرقوا؛ لئلا يتمادى بكم الاختلاف إلى الشر.[26]

لا يخاطب نفسه بآيات ربه:

إن مما يؤسف له في صلة المسلمين المعاصرين بإسلامهم وقرآنهم وتعاملهم مع ربهم، أنهم يفعلون عكس هذه القاعدة .. إن الواحد منهم لا يشعر أنه هو المقصود أساسا بالأمر أو التوجيه، وأنه المطالب به، وأن شخصه بذاته معنى به بخاصة .. ولكنه يشعر أن الخطاب لفلان أو علان ..

إنه يلقي المسئولية عنه، ويلغى خصوصيته ليوجهها إلى غيره، إنه «يوزّع» الواجبات على غيره، بعد أن «يزحلقها» عنه، ولهذا لم يتفاعل معها ولم يسع لكى يلتزم هو بها ..

إذا قرأ آيات القصص قصرها على السابقين، وإذا قرأ آيات الخطاب والتكليف للرسول عليه الصلاة والسلام خصه هو بها، وإذا قرأ حادثة زمن الصحابة فهي لهم فقط .. وإذا سمع يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهي تخاطب الصحابة أو مؤمنين في العوالم الأخرى، آيات الزكاة والصدقة للأغنياء فقط، وآيات الحكم والالتزام والطاعة للحكام فقط، وآيات الجهاد والحرب للعسكريين فقط، وآيات الولاء والمحبة والنصرة للسياسيين فقط، وآيات الدعوة والبلاغ للشيوخ والعلماء فقط .. وهكذا .. وهكذا وإذا بهذا المسلم لم توجه له آية، ولم يطالب بحكم، ولم يكلف بواجب .. فإذا ما وصلت الآيات إلى الآخرين فإنهم سيفعلون مثل هذا، ويحرصون على أن يوجهوها لغيرهم ويزحلقوها عنهم .. فنرى القرآن موجها لأكوان أخرى، ولأقوام يوجدون في عالم الأحلام والخيالات والأوهام ..

على القارئ البصير للقرآن أن يوقن أنه هو المقصود بالآية، وأنها تعنيه هو، وتخصه هو، وتخاطبه هو، وتطالبه هو، وتحدثه هو .. فإذا قرأها فليفتح لها أجهزة التلقي والاستجابة ليلتزم بما فيها من توجيهات.[27]

قال محمد بن كعب القرظي: مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَكَأَنَّمَا كَلَّمَهُ اللَّهُ وَإِذَا قَدَّرَ ذَلِكَ لَمْ يَتَّخِذْ دِرَاسَةَ الْقُرْآنِ عَمَلَهُ بَلْ يَقْرَؤُهُ كَمَا يَقْرَأُ الْعَبْدُ كِتَابَ مَوْلَاهُ الَّذِي كَتَبَهُ إِلَيْهِ لِيَتَأَمَّلَهُ وَيَعْمَلَ بِمُقْتَضَاهُ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا الْقُرْآنُ رَسَائِلُ أَتَتْنَا مِنْ قِبَلِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِعُهُودِهِ نتدبرها في الصلوات ونقف عليها في الخلوات وننفذها في الطاعات والسنن المتبعات.[28]

ضعف الارتكاز على القرآن في الرد على الملحدين:

إن الله سبحانه وتعالى قد وصف القرآن بأنه شفاء {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يُونُسَ: 57].

والمريض هو أولى الناس باستخدام الترياق, فلا تخبرني أن الكافر لن ينتفع به, بل الحقيقة أنه لا يوجد ما هو أكثر نفعا له من هذا الترياق, فكل ما سواه سيكون أقل منه, أنقص منه, أضعف بما لا يقاس, كما قال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) }أي: بأي شيء تراهم ينتفعون بعد هذا القرآن؟!

الجواب: لا شيء

لذلك فلا عجب من أن نجد أن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم الدعوية تكاد تكون اقتصرت على تلاوة القرآن وتبيينه للناس:{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) } [النَّمْلِ:91].

ليس هذا معناه أن مجرد وقع الكلمات لها تأثير سحري على الناس, وإن كان هذا موجود بالفعل لدى الكثيرين حتى بين غير الناطقين بالعربية.

فالقرآن يشتمل على معان حكيمة تشتمل على رؤوس الحجج العقلية والمحاجات المنطقية مدمجة بالأحاديث العاطفية التي تمس حاجة الإنسان من الداخل ويشعر بأنها تفهمه وتجيبه دون أن يسأل, ويشعر أنه مرحب به كضيف أتى من بعيد في بيت دافئ وسط صحراء الحياة الجرداء في ليلة باردة.

في حالة القرآن أنت تقوم مع الكافر أو الملحد أو الحائر أو الباحث عن الجواب (وفي هذه الحالة فإن الشخص قد يكون أنت) بمهمة المذياع الملتقط لموجات الراديو, أنت لا تتدخل في هذه الموجات لتغيرها حتى تلائم طبيعة أحد, ليس لك أن تفعل ذلك, أنت تقوم بضبط جهاز الاستقبال للآيات الحكيمة, تشرح معنى مبهما, توضح لفظا مشكلا تتخير من الآيات ما هو أنسب لحاله, تتخير من الحجج ما تجيب به على سؤاله, ثم تترك المجال بعد ذلك لتلك المعجزة أن تقوم بأثرها. فإن كان الله يريد أن يهديه فمن تراه سيمنع عنه ذلك.

تقول لي: يجب أن نتحدث مع الملحد أو الحائر بالأدلة العقلية وبالمنطق والحجة وأنا أوافق على ذلك تماما. كل ما في الأمر أنني وجدت أن القرآن منجم خصب مليء بكل هذه الأشياء المباركة.[29]

التقصير في إحصاء أسماء الله الحسنى:

حاشاهُ سبحانه أن يُنزل أسماءه العُليا من علياء السماء إلى بسط الأرض، من أجل أن تُعلّق كلوحاتٍ فنيّةٍ على الجدران الميتة، أو تُوضع على الرفوف لِمُقلة النَّاظر، بل نزلت كغيرها من جسور الروح: لزينة العقول، وحركتها المنيرة، ولنبض القلوب، ولجمال حياة الكون والكون برمته.

فلا ينبغي عند المرور على أسمائه سبحانه وتعالى في كتابه المجيد تركها دون وقفة تدبر وتفهم.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ”.[30]

قال العلماء: معناه من حفظها وتفكر في مدلولها دخل الجنة.[31]

قال ابن القيم: في بيان مراتب إحصاء أسمائه التي من أحصاها دخل الجنة وهذا هو قطب السعادة ومدار النجاة والفلاح:

المرتبة الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها.

المرتبة الثانية: فهم معانيها ومدلولها.

المرتبة الثالثة: دعاؤه بها.[32]

عدم استحضار الدعاء عند آيات الرحمة والعذاب:

كثير من الناس ترى حاله واحدة عند تلاوة القرآن سواء مر بآية عذاب أو آية ثواب فلا يستبشر بآيات الثواب ولا يحزن لآيات العذاب, فلا يتحرك قلبه متأثرا ولا يلهج لسانه داعيا, هاجرا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء والتسبيح والتعوذ عند تلاوة القرآن حسب خطاب كل آية:

عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ).

ورواه الترمذي والنسائي بلفظ : “إذا مر بآية عذاب وقف وتعوّذ “.[33]

قال النووي رحمه الله في : ” قال الشافعي وأصحابنا : يسن للقارئ في الصلاة وخارجها إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى الرحمة أو بآية عذاب أن يستعيذ به من العذاب , أو بآية تسبيح أن يسبح أو بآية مثل أن يتدبر.[34]

  1. صحيح مسلم, (780)
  2. قوت المغتذي على جامع الترمذي للسيوطي, 2/718
  3. مصنف عبد الرزاق, (5998)
  4. صحيح البخاري, (5020)
  5. فتح الباري, 9/66
  6. صحيح البخاري (5052)
  7. رسائل ابن حزم ” (3/150)
  8. كشاف القناع (1/430)
  9. صحيح مسلم, (1050)
  10. فضائل القرآن وآداب التلاوة للإمام القرطبي ص (12)
  11. تفسير ابن كثير (2/ 268 – 287)
  12. (مدارج السالكين (1/ 517) انظر نضرة النعيم (6/ 2301)).
  13. مجلة التوحيد ص (12 – 13) عدد ربيع الآخر 1417 هـ السنة (25).
  14. كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء لابن القيم ص (246)
  15. البرهان في علوم القرآن للزركشي (1/ 558)
  16. مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر, ص ١٧٩.
  17. البرهان في علوم القرآن للإمام الزركشي (1/ 545)
  18. تحقيق الوصال بين القلب والقرآن, مجدي الهلالي, ص:57
  19. غربة القرآن, ص:14
  20. النسائي, [1783], وصححه ابن حجر في الإصابة, 2/147 |
  21. فضائل القرآن للمستغفري, ص:133
  22. المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير ص (1172 – 1173)
  23. قواعد وأحكام مهمة للعاملين والمهتمين بشؤون الأمة, للشيخ: إسماعيل المجذوب, ص: 62
  24. رواه البخاري (5060) ومسلم (2667) .
  25. شرح مسلم (16/218-219)
  26. فتح الباري, (9/101)
  27. مفاتيح التعامل مع القرىن للخالدي, ص: 134
  28. إحياء علوم الدين, 2/285
  29. الإجابة القرآنية لمهاب السعيد, ص: 25
  30. روى البخاري (2736) ومسلم (2677)
  31. صفوة التفاسير, 1/499
  32. بدائع الفوائد, 1/64
  33. مسلم, (772)
  34. “المجموع” (3/562)
Leave A Reply

Your email address will not be published.