العمل الجماعي والمعارك الجهادية

400

العمل الجماعي والمعارك الجهادية

من الثابت عقلا وشرعا أن وحدة الصف سبب النصر, كما أن التفرق والنزاع سبب الهزيمة:

قال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّٗا كَأَنَّهُم بُنۡيَٰنٞ مَّرۡصُوصٞ ٤}[سورة الصف:4]

لنقف أمام الحالة التي يحب الله للمجاهدين أن يقاتلوا وهم عليها: {صفا كأنهم بنيان مرصوص}.. فهو تكليف فردي في ذاته، ولكنه فردي في صورة جماعية. في جماعة ذات نظام. ذلك أن الذين يواجهون الإسلام يواجهونه بقوى جماعية، ويؤلبون عليه تجمعات ضخمة؛ فلا بد لجنود الإسلام أن يواجهوا أعداءه صفا. صفا سويا منتظما، وصفا متينا راسخا, ذلك إلى أن طبيعة هذا الدين حين يغلب ويهيمن, أن يهيمن على جماعة، وأن ينشئ مجتمعا متماسكا متناسقا. فصورة الفرد المنعزل الذي يعبد وحده، ويجاهد وحده، ويعيش وحده، صورة بعيدة عن طبيعة هذا الدين، وعن مقتضياته في حالة الجهاد، وفي حالة الهيمنة بعد ذلك على الحياة.

وهذه الصورة التي يحبها الله للمؤمنين ترسم لهم طبيعة دينهم، وتوضح لهم معالم الطريق، وتكشف لهم عن طبيعة التضامن الوثيق الذي يرسمه التعبير القرآني المبدع: {صفا كأنهم بنيان مرصوص}.. بنيان تتعاون لبناته وتتضام وتتماسك، وتؤدي كل لبنة دورها، وتسد ثغرتها، لأن البنيان كله ينهار إذا تخلت منه لبنة عن مكانها. تقدمت أو تأخرت سواء. وإذا تخلت منه لبنة عن أن تمسك بأختها تحتها أو فوقها أو على جانبيها سواء .. إنه التعبير المصور للحقيقة لا لمجرد التشبيه العام. التعبير المصور لطبيعة الجماعة، ولطبيعة ارتباطات الأفراد في الجماعة. ارتباط الشعور، وارتباط الحركة، داخل النظام المرسوم، المتجه إلى هدف مرسوم.[1]

وقال تعالى: {وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ وَٱصۡبِرُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ ٤٦}[سورة الأنفال:46]

وإنما كان التنازع مفضيا إلى الفشل لأنه يثير التغاضب ويزيل التعاون بين القوم، ويحدث فيهم أن يتربص بعضهم ببعض الدوائر، فيحدث في نفوسهم الاشتغال باتقاء بعضهم بعضا، وتوقع عدم إلفاء النصير عند مآزق القتال، فيصرف الأمة عن التوجه إلى شغل واحد فيما فيه نفع جميعهم، ويصرف الجيش عن الإقدام على أعدائهم، فيتمكن منهم العدو.

{وتذهب ريحكم}: وتزول قوتكم ونفوذ أمركم، وذلك لأن التنازع يفضي إلى التفرق.[2]

وبإلقاء نظرة سريعة على الجيش المسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده جيوش المسلمين في كل عهود القوة والفتوحات نجده جيشا قد استكمل صفات الجيش المنتصر, يقاتل بشكل منظم ومتماسك لا تختلف فيه صفوف المقاتلين كما أنه لا تختلف قلوبهم, يتشارك فيه القائد مع الجندي في حمل القضية وتحمل المسؤولية, يكمل بعضهم بعضا للوصول إلى الهدف الأسمى والنصر العظيم.

المطلب الأول: سمات العمل الجماعي الجهادي:

1_ التشاركية بين القائد وأتباعه في اتخاذ القرار العسكري:

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسح المجال لكل قائد, ولكل جندي صاحب فكرة وخبرة أن يبدي رأيه, ويسمع لهذا الرأي بكل اهتمام وجدية, ويأخذ برأيه وإن كان هذا الرأي يخالف رأيه صلى الله عليه وسلم.[3]

في معركة بدر بعد أن جمع صلى الله عليه وسلم معلومات دقيقة عن قوات قريش سار مسرعا ومعه أصحابه إلى بدر ليسبقوا المشركين إلى ماء بدر، وليحولوا بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل عند أدنى ماء من مياه بدر، وهنا قام الحباب بن المنذر، وقال: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» قال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، فانهض يا رسول الله بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم-أي جيش المشركين- فننزله ونغور -نخرب- ما وراءه من الآبار ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأيه ونهض بالجيش حتى أقرب ماء من العدو فنزل عليه، ثم صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من الآبار[4]، وهذا يصور مثلا من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه حيث كان أي فرد من أفراد ذلك المجتمع يدلي برأيه حتى في أخطر القضايا، ولا يكون في شعوره احتمال غضب القائد الأعلى، ثم حصول ما يترتب على ذلك الغضب من تدني سمعة ذلك المشير بخلاف رأي القائد وتأخره في الرتبة وتضرره في نفسه أو ماله.[5]

وحين اختار المسلمون البقاء في المدينة والتحصن بها في قتال الأحزاب وعدم المصادمة الخارجية مع قوى الأحزاب أشار الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر خندق في الجهة المكشوفة من المدينة, يحول بين العدو وبين دخول المدينة, وفكرة حفر الخندق حول المدن فكرة عسكرية فارسية أخذها سلمان الفارسي رضي الله عنه عن قومه وأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بها بقوله: (إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا).[6]

2_مشاركة القائد لجنوده في الإعداد وفي ميدان معركة:

عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء، قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ينقل معنا التراب، ولقد وارى التراب بياض بطنه، وهو يقول: والله لولا أنت ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزلن سكينة علينا، إن الألى قد أبوا علينا – قال: وربما قال: إن الملا قد أبوا علينا – إذا أرادوا فتنة أبينا، ويرفع بها صوته”.[7]

عندما يشارك القائد جنوده فإنهم لا شك يخرجون أقصى طاقاتهم، وليس هذا نتيجة خوفهم من القائد لا، وإنما نتيجة شعورهم بقضية مشتركة مهمة، نتيجة إحساسهم أن الموضوع هذا موضوعهم جميعا.

فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو النبي المطاع والحاكم لدولة المدينة والقائد الأعلى لجيش المسلمين ينزل بنفسه ليحفر مع المسلمين، لا يشرف على الحفر فقط! وإنما يقوم بالحفر بنفسه، فيضرب بالمعول بنفسه، ويأخذ التراب بنفسه، وكشف عن بطنه حتى لا تعوقه الملابس عن الحركة، والصحابة لا يرون بطنه من التراب الذي غطاه.[8]

_عن عبد الله بن مسعود رضي الله، قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، كان أبو لبابة، وعلي بن أبي طالب، زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا نحن نمشي عنك، فقال صلى الله عليه وسلم: ” ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما “[9]

فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم يريد أجر المشي في سبيل الله، وهذا التصرف يزيد من حماسة الجند، وذلك عندما يجد القائد معه في كل خطوة من مشاكله وتعبه وسعادته وحزنه، ليس هناك ترفع ولا كبر ولا ظلم ولا كراهية، أما الآن في بعض الدول الإسلامية يكون هناك ألف حاجز بينك وبين الزعيم لابد أن تجتازها، حتى تستطيع أن تصل إليه، بل من المستحيل غالبا أن تتجاوز التسعمائة حاجز الأخيرة.

فهذه المشكلة لو حصلت في أمة فليس من الممكن أن تنتصر أبدا، ولتراجعوا معي سيرة زعماء الأمة الذين حصل في زمنهم نصر وتمكين وعزة، فإنك ستجد اختلاطا كاملا من القائد مع الشعب، كـ صلاح الدين الأيوبي، وقطز، وعبد الرحمن الناصر، وموسى بن نصير، ويوسف بن تاشفين وغيرهم كثير.

فلتراجعوا تاريخ الأمة، فإنكم ستجدون هذه الأشياء واضحة مثل الشمس، وعلى النقيض تماما كل لحظات الانهيار والتردي في حالة الأمة تكون مصحوبة بعزلة الحاكم عن الشعب.[10]

3_ مشاركة الجنود لقائدهم بالحلول والابتكارات:

مما لا يأخذ حظا كثيرا في العرض التاريخي للفتوحات الإسلامية أمر ابتكارات المجاهدين واختراعاتهم في ميدان الحرب والقتال, مع أنه من أهم الأمور التي ينبغي التعرض لها والتركيز عليها والاهتمام بها, فإن ابتكارا واحدا ربما غير مصير المعركة,[11] وهنا يبرز أثر التربية على العمل الجماعي لدى الجنود المجاهدين في إعمال فكرهم وخبرتهم في مساعدة قائدهم في إيجاد الحلول لمواجهة الظروف الطارئة التي تعتري المعركة ويعالجون الموقف العصيب ويغيرون النتائج ويقلبون الموازين.

ولنضرب بعض الأمثلة على ذلك:

أ_ معركة اليمامة واقتحام حديقة الموت:

لما انتهى أصحاب مسيلمة إلى حائط حفير فتحصنوا به وأغلقوا الباب قال البراء بن مالك ضعوني على برش واحملوني على رؤوس الرماح ثم ألقوني من أعلاها داخل الباب ففعلوا ذلك وألقوه عليهم فوقع وقام وقاتل المشركين وقتل مسيلمة.

وقد ذكر ذلك مستقصى في أيام الصديق حين بعث خالد بن الوليد لقتال مسيلمة وبني حنيفة وكانوا في قريب من مائة ألف أو يزيدون وكان المسلمون بضعة عشر ألفا, وكان المهاجرون والأنصار قريبا من ألفين وخمسمائة فجعلوا يقولون: يا أصحاب سورة البقرة بطل السحر اليوم فهزموهم بإذن الله, وألجأوهم إلى حديقة هناك وتسمى حديقة الموت, فتحصنوا بها فحصروهم فيها ففعل البراء بن مالك أخو أنس بن مالك ما ذكر من رفعه على الأسنة فوق الرماح حتى تمكن من أعلى سورها ثم ألقى نفسه عليهم ونهض سريعا إليهم ولم يزل يقاتلهم وحده ويقاتلونه حتى تمكن من فتح الحديقة ودخل المسلمون يكبرون وانتهوا إلى قصر مسيلمة حتى قتل مسيلمة بحربة وحشي وبسيف أبي دجانة.[12]

ب_ مواجهة الفيلة في القادسية:

كان من أعظم المحن التي أتعبت المسلمين في فتوح فارس أن الفرس يقاتلون على الفيلة, ولم تكن خيول العرب قد شاهدت الفيلة من قبل, فكانت تنفر منها, فصار الأمر يمثل خللا خطيرا في حسابات المواجهة, فابتكرت العقول المسلمة وسائل مبتكرة لمواجهة هذه الأزمة كان منها ابتكارا لجندي من المسلمين لم يعرف اسمه, وذلك أنه لما وجد خيل المسلمين تنفر من الفيلة قضى ليلته في بناء فيل من الطين, وصار يقرب فرسه منه, حتى قضى الفرس معه طوال الليل فأنس به فلم يعد ينفر منه, فلما أصبح يوم القتال امتطى الرجل صهوة جواده وأقبل على الفيل فلم ينفر منه, فكان هذا مما حث154 خيول المسلمين على الثبات للفيلة, ونادى به الناس إنه قاتلك (أي الفيل), فقال لهم: لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين.

ج_ معركة ذات الصواري:

كانت معركة فاصلة مصيرية, فالمواجهة بين مائتي سفينة للمسلمين أمام ثمانمائة سفينة بيزنطية, وعلى قيادة الروم الإمبراطور البيزنطي قسطنطين بن هرقل نفسه, والنتيجة ستحدد لمن ستكون سيادة البحر المتوسط.

مع شدة المعركة ونتائجها كان المسلمون قد ابتكروا فكرتهم الخطيرة: وهي تحويل المعركة البحرية إلى معركة برية حيث يستطيع فيها المجاهد المسلم تحقيق نتائج أفضل, لا نعرف بالضبط صاحب الفكرة وحسبه أن الله يعرفه, والطريقة كالآتي:

تهبط مجموعات خاصة من المسلمين تحت الماء فتربط السفن بعضها ببعض, فهي حين تربط السفن الإسلامية بعضها ببعض فإنها تحولها كجزيرة فسيحة تمنع أسطول الروم من النفاذ بينها واختراقها وتطويقها, فإن تم لها ذلك, ربطت ما استطاعت من سفن الروم بسفن المسلمين, وبهذا تحولت السفن إلى سطح بري أجبر به البيزنطيون على خوض معركة شبه برية فوق السفن.[13]

هذه الحلول العبقرية السابقة لم تكن من قائد الجيش, إنما من أفراده, وهذا لا يشير حتما إلى ضعف القيادة إنما على براعتها وتحويل القيادة من الفردية إلى الجماعية وذلك من خلال تفعيل حس المشاركة في نجاح العمل والمسؤولية لدى الجند.

  1. تفسير الظلال, ص: 3555
  2. التحرير والتنوير, 10/32
  3. أبو فارس, محمد عبد القادر, االمدرسة النبوية العسكرية, ص: 130
  4. انظر: مرويات غزوة بدر، ص165، قصة الحباب تتقوى وترتفع إلى درجة الحسن.
  5. الصلابي, علي, السيرة النبوية, ص: 648
  6. أبو فارس, محمد عبد القادر, االمدرسة النبوية العسكرية, ص: 131 _ فتح الباري بشرح صحيح البخاري, 8\395
  7. صحيح مسلم, بَابُ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ وَهِيَ الْخَنْدَقُ, 3/1430, رقم: (1803)
  8. السرجاني, راغب, السيرة النبوية, 6/28, ترقيم الشاملة
  9. مسند احمد, أورده الهيثمي في “المجمع ” 6/68، وقال: رواه أحمد والبزار، وفيه عاصم بن بهدلة، وحديثه حسن، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح.
  10. السرجاني, راغب, السيرة النبوية, 9/21, ترقيم الشاملة
  11. إلهامي, محمد, في أروقة التاريخ, ص: 142
  12. البداية والنهاية, 6/268
  13. إلهامي, محمد, في أروقة التاريخ, ص: 147
Leave A Reply

Your email address will not be published.