الزعيم الديني المؤسس لدولة المرابطين: عبد الله بن ياسين

667

بسم الله الرحمن الرحيم

الدورة الفكرية: سير أعلام المصلحين

المحاضرة الثانية: عبد الله بن ياسين

إعداد: منصة فسائل التعليمية

تعريف بالزعيم الديني لدولة المرابطين عبد الله بن ياسين:

هو عبد الله بن ياسين بن مكوك بن سير بن على الجزولي، أصله من قريـ «تماماناوت» في طرف صحراء غانة, درس على فقيه السوس وجاج بن زلو، رحل إلى الأندلس في عهد ملوك الطوائف وأقام بها سبع سنين، واجتهد في تحصيل العلوم الإسلامية، ثم أصبح من خيرة طلاب الفقيه.[1]

قال الذهبي: «كان عالمًا قوي النفس، ذا رأي وتدبير».[2]

بداية المهمة النبيلة:

كانت قبائل الصحراء البربرية على مستوى عال من قوة الشكيمة والبطش، بعد أن رقّت فيهم تعاليم الإسلام وضعفت أواصر الدين الذين استقوه أول مرة على يد الفاتحين الأول أمثال عقبة بن نافع الفهري الذي اغتالته يد الأمير البربري الغادر كسيله غارسة.

ولم يزل حبل الإسلام يضعف ويتآكل ووتيرة التقاليد الوثنية والجاهلية تزداد، حتى أحس أمير قبيلة كدالة البربرية يحيى بن إبراهيم بالحاجة الماسة إلى إحياء الإسلام في فجاج الصحراء، فخرج إلى الحج تاركا الحكم لابنه إبراهيم بن يحيى.

وعند عودته إلى الحج مر على الفقيه أبي عمران الفاسي وهو يومها رأس كبير من رؤوس الإسلام وعنوان بارز في كتاب الشريعة بالمغرب الأقصى، وقد شرح الأمير لأبي عمران حال أهل الصحراء وأنهم لا يميزون منكر الشريعة من معروفها، ولا يصل إليهم إلا نفر قلة من التجار تشغلهم التجارة أكثر من الدعوة والتبشير الإسلامي.

وقد أثار هذا الشرح عاطفة الإمام أبي عمران، فاستنهض تلامذته لمرافقة الأمير الكدالي، فاعتذروا بالطريق المخوفة وشكيمة القبائل البربرية وشدة المهمة، فأحال أبو عمران المهمة إلى تلميذ له في أقصى بلاد السوس بالمغرب الأقصى وهو الفقيه المصلح وجاج بن زلو اللمطي الذي استنهض لهذه المهمة تلميذه عبد الله بن ياسين فنهض له كالجبل الأشم بعزيمة المؤمن وشدة الزاهد وربانية الداعي الرحيم.[3]

ودخل عبد الله بن ياسين مع يحيى بن إبراهيم في مضارب ومواطن ومساكن الملثمين من قبيلة جدالة في عام ٤٣٠ هـ / ۱۰۳۸م فاستقبله أهلها واستمعوا له، وأخذ يعلمهم، فكان تعليمه باللغة العربية لطلبة العلم، والإرشاد الديني للعامة بلهجة أهل الصحراء البربرية.

لاقي عبد الله بن ياسين كثيرًا من الصعوبات، فقد وجد أكثر الملثمين لا يصلون ولا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، وعم الجهل عليهم، وانحرفوا عن معالم العقيدة الصحيحة وتلوثت أخلاقهم وأحكام دينهم، واصطدمت تعاليمه بمصالح الأمراء والأشراف فثاروا عليه، وكادوا يقتلوه، إلا أنه ترك قبيلة جدالة، وانتقل إلى قبيلة لمتونة، ومن ثم اختار رباطه المشهور على مصب نهر السنغال. [4]

عبد الله بن ياسين ونواة دولة المرابطين:

جلس عبد الله بن ياسين يُفكِّر ويمعن النظر، فهداه ربُّه عز وجل، فما كان منه إلاَّ أن تعمَّق في الصحراء ناحية الجنوب بعيدًا في أعماق القارة الإفريقية، حتى وصل إلى جزيرة يُرَجَّح أنها تقع في منحنى نهر (النيجر)، على مقربة من مدينة تنبكتو، فمن هنا بدأ أمر المرابطين،.

صنع عبد الله بن ياسين خيمة بسيطة، وكان من الطبيعي أن يكون في جُدَالة بعض الناس- وخاصَّة من الشباب- الذين تحرَّكت قلوبهم وفطرتهم السويَّة لهذا الدين، فحين علموا خبر شيخهم في مقرِّه البعيد هذا، نزلوا إليه من جنوب موريتانيا ولم يتجاوز عددهم في بادئ الأمر سبعة نفر من جدالة، على رأسهم الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي، الذي ترك قومه ومكانته فيهم ونزل مع الفقيه، وتضيف بعض المصادر أن معهم اثنين من كبار قبيلة لمتونة؛ هم: يحيى بن عمر وأخوه أبو بكر.

وفي خيمته وبصبر وأناة شديدين أخذ الشيخ عبد الله بن ياسين يُعَلِّمهم الإسلام كما أنزله الله عز وجل على نبيِّه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف أنَّ الإسلام نظام شامل متكامل، يُنَظِّم كل أمور الحياة.[5]

تربية المرابطين:

مع كثرة الخيام وازدياد العدد إلى الخمسين، فالمائة، فالمائة وخمسين، فالمائتين، أصبح من الصعب على الشيخ توصيل علمه إلى الجميع، فقسَّمهم إلى مجموعات صغيرة، وجعل على كلٍّ منها واحدًا من النابغين، وهو منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان يجلس صلى الله عليه وسلم مع صحابته في مكة يُعَلِّمهم الإسلام، وفي بيعة العقبة الثانية حين قسم الاثنين والسبعين رجلاً من أهل المدينة المنورة إلى اثني عشر قسمًا، وجعل على كل قسم (خمسة نفر) منهم نقيبًا عليهم، ثم أرسلهم مرَّة أخرى إلى المدينة المنورة حتى قامت للمسلمين دولتهم.

وهكذا -أيضًا- كان منهج الشيخ عبد الله بن ياسين، حتى بلغ العدد في سنة (440هـ=1048م)، بعد أربعة أعوام فقط من بداية دعوته ونزوحه إلى الجزيرة إلى ألف نفس مسلمة، {نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 13].

فبعد أن طُرد الرجل وأُوذي في الله وضُرب وهُدِّد بالقتل، إذا به ينزل بمفرده إلى أعماق الصحراء حتى شمال السنغال وحيدًا طريدًا شريدًا، ثم في زمن لم يتعدَّى أربع سنوات يتخرَّج من تحت يديه ألف رجل على أفضل ما يكون من فهم الإسلام وفقه الواقع.[6]

معنى المرابطين:

أصل كلمة الرباط هي ما تُربط به الدابَّة، ثم قيل لكل أهل ثغر يدفع عمَّنْ خلفه رباط، فكان الرباط هو ملازمة الجهاد, ولأن المرابطين أو المجاهدين كانوا يَتَّخِذُون خيامًا على الثغور يحمون فيها ثغور المسلمين، ويُجاهدون في سبيل الله؛ فقد تَسَمَّى الشيخ عبد الله بن ياسين ومَنْ معه ممن كانوا يُرابطون في خيام على نهر السنغال بجماعة المرابطين، وعُرفوا في التاريخ بهذا الاسم.[7]

مرحلة الجهاد بالسيف والتوسع:

إنَّ مَنْ يقرأ عن الشيخ عبد الله بن ياسين والمرابطين الذين كانوا معه قراءة عابرة، يظنُّ أنهم جماعة من الناس اعتزلوا قومهم ليعبدوا الله بعيدًا عن ضوضاء العمران ومشاكل الناس فحسب، ولم يكن الأمر كذلك على الإطلاق؛ بل كان هذا الاعتزال جزءًا من خطة كبيرة، يتمُّ تنفيذها خطوة بعد خطوة، بفهم سليم وعمق في التفكير، ودقَّة في التخطيط، وبراعة في التنفيذ.

عندما وصل عدد المرابطين إلى ألف، بعثهم الشيخ ابن ياسين إلى أقوامهم لينذروهم، ويطلبوا إليهم الرجوع إلى الإسلام الصحيح، واتباع أحكام الدين الصحيح، ففعلوا ما أُمروا به، ودعا كل قومه إلى الرشد والهدى ومجانبة التقاليد المنافية للدين، فلم يُصْغِ لهم أحد من أقوامهم، فخرج إليهم عبد الله بن ياسين بنفسه، واستدعى أشياخ القبائل ووعظهم، وحذَّرهم عقاب الله، ونصحهم باتباع أحكامه، فلم يلقَ منهم سوى الإعراض والتحدي.

وعند تولي الشيخ أبو بكر اللمتوني قيادة دولة المرابطين العسكرية والسياسية دخل بحماسة شديدة مع الشيخ عبد الله بن ياسين الزعيم الديني والفكري، وبدأ أمرهم يقوى وأعدادهم تزداد، وبدأ المرابطون بفتوحاتهم الجهادية والتي واجهت الفئات التالية:

الأمراء الظلمة كأمير سلجسامة – القبائل المنحرفة التي رفضت الانقياد لأحكام الإسلام – الحركة الرافضية في بلاد السوس – البرغواطيون الذي ادعى قائدهم صالح بن طريف النبوة وشرع لهم الشرائع _ القبائل الوثنية.

وكان نصر الله حليفهم ففتح الله عليهم فنشروا الإسلام وأزالوا المنكرات ورفعوا الضرائب والمغارم عن الناس وأعادوا للعلماء المضطهدين مكانتهم,[8] فوصلت حدودهم من شمال السنغال إلى جنوب موريتانيا، وأدخلوا معهم جُدَالة، فأصبحت جُدَالة ولَمْتُونة -وهما القبيلتان الموجودتان في شمال السنغال وجنوب موريتانيا- جماعة واحدةً تمثِّل جماعة المرابطين.

أسباب نجاح الشيخ عبد الله بن ياسين في دعوته:

من خلال كتب التاريخ نستطيع أن نقول: إن عبد الله بن ياسين – رحمه الله -.

نجح في رسالته الدعوية لأسباب مُهمَّة يجب أن يعرفها الدعاة إلى الله، ألا وهـي:

أولا: الذكاء:

كان رحمه الله – عميق الفهم، صاحب حجة، يُقيم الدليل على خصومه من الفقهاء والمحليين الذين تحالفوا مع الأمراء والأعيان للقضاء عليه أو طرده.

واختياره لمكان أنسب لتربية أتباعه وتعليمهم يدل على ذكائه وبعد نظره.

ثانيا: الشجاعة:

حيث إنه دخل الصَّحراء داعيا إلى الله تعالى مع إن غيره من تلاميذ أبي عمران الفاسي اعتذروا وكذلك من تلاميذ وجاج بن زلوا. وامتاز بشجاعة وصلابة عظيمة في دعوته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وفي جهاده حتى إنه استشهد في إحدى معاركه ضد أعدائه. فكان شُجاعًا عظيم الاحتمال ومارس أفضلَ الشَّجَاعَة، ألا وهي الصراحة في الحق، وكتمان السر إذ إنه كان قد خطط مع يحيى بن إبراهيم المراحل العملية ولم يتسرب منها شيء لأعدائه.

والعاملون في الدعوة إلى الله ينبغي عليهم أن يكونوا شجعانا فهي منه وإليه. قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) }(آل عمران: ١٧٣). و حامل دين الله ينبغي ألا يستكين، ولا يجبن، ولا يخور عزمه؛ لأنه صاحب رسالة مُقدَّسة من عند العليم الحكيم، سار على نهجها رسل الله من قبل، فنصرهم الله، وانتقم من عدوهم.

لقد جمع عبد الله بن ياسين – رحمه الله – من القُوَّة الفكرية أنواعًا متعددة من قوة الإدراك، وقُوَّة الصبر، وقُوَّة العلم، وقُوَّة التلقي، وغيرها من القوى.

ومن هنا يتضح لنا حاجة العاملين في الحركة الإسلامية إلى هاتين القوتين، البدنية والعقلية وجميع أنواع القوى الفكرية لتوظيفها في الدعوة إلى الله, ولقد أشار القرآن الكريم إلى قيمة القُوَّة العقلية الفكرية وإلى القوة البدنية في بيان أمة مجاهدة تحفز للنهوض بعبء النضال في سبيل عقيدتها وحريتها، وكان من صفات قائدها أن الله أعطاه ومنَّ عليه بهاتين القوتين البدنية والعقلية، قَالَ تَعَالَى: فِي قِصَّةِ طَالُوتَ: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [الْبَقَرَةِ:247]. فبسطة العلم إشارة إلى القوة العقلية، وبسطة الجسم إشارة إلى القُوَّة البدنية.

ثالثا: الأمانة:

فحين وجد الفقيه عبد الله بن ياسين أن القلوب التفت حوله، وأصبح الآمر الناهي في قبائل الملثمين، لم يُنافس الأمير يحيى بن إبراهيم في منصبه، بل نجده لم يتجاوز حدوده، ولم يتدخل في سُلطات الأمير يحيى مع مقدرته على إزاحته وإبعاده من الطريق ليتبوأ الزعامة السياسية والدينية معا، وهذا يدلُّ على أمانة الداعية الفقيه بن ياسين والأمانة صفة مهمة للعاملين في الحركة الإسلامية، فهي ذات أنوار تشع على من حول الدعاة إلى الله فتجذبهم للانخراط في ميادين العمل الإسلامي الواسعة والمحتاجة لكل جهد وشخص مخلص لهذا الدين.

والأمانة تحتاج إلى أشخاص أقوياء لحملها، ومفهوم الأمانة في القرآن واسع جدا. وقد وصف الله المؤمنين الذين نالوا الفلاح في الدنيا والآخرة وورثوا جنة الفردوس بصفات منها الأمانة. قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8} (المؤمنون: ۸} .

فعبد الله بن ياسين – رحمه الله – اتصف بالأمانة فعظم شأنه في نظر أتباعه وفي تاريخ المسلمين؛ لأنه كان أمينا في نفسه ومع أخوته، وحمل أمانة الإسلام، وبذل كـل ما في وسعه، وتحرك بمنهج الله في دنيا النَّاس لتحكيم شرع الله، فأكسبته هذه الصفة في نفوس الناس قبولاً.

رابعا: الحلم

فنجده عندما تمكن من قبائل جدالة ولمتونة التي حاربت دعوته عفا عنها وأحسن إليها، وكل من انصاع لأحكام الله من المخالفين والمحاربين له عفا عنه. والحلم كما هو معلوم سيد الأخلاق؛ فالحليم هو الذي يتحمل أسباب الغضب، فيصبر ويتأنى، ولا يثور.

من هنا ينبغي على الداعية أن يملأ صدره بالحلم، لأن طريق الدعوة محفوفة بالمكاره والمتاعب والإيذاء، والبطش والسخرية، وهذه كلها عقبات تزدحم في وجه الدعاة إلى الله.

ولقد ضرب الله لنا في كتابه العزيز نماذج من حلم رسله وسعة صدورهم على ما لاقوه من إيذاء وابتلاء من قومهم قال تعالى عنه هود عليه السلام: ﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) ﴾ [الأعراف: ٦٦-٦٨) .

صورت لنا هذه الآيات مقدار الحلم الذى يتصف به هود عليه السلام وسعة صدره، حيث لم يعبأ بهذا السباب، وبهذه السخرية والشتائم، ولم يطش لها حلمه، بل قابل هذه الشتائم والسباب والسخرية بدعوة التوحيد، ووضح لهم مهمة رسالته وأخيرا نصحهم بالحسنى وأنه أمين على ذلك.

خامسا: الجاذبية الفطرية:

وهذه الصفة بارزة للعيان في شخصية الفقيه عبد الله ابن ياسين وبها جذب قلوب أبناء الصنهاجيين بدون تكلف، وهي من أقوى العناصر التي تكونت منها شخصية الفقيه ابن ياسين.

لقد استطاع أن يملك قلوب من جالسوه وسمعوا حديثه من أمثال يحيى بن إبراهيم، ويحيى بن عمر، وأبى بكر بن عمر، وغيرهم من قادة الصنهاجيين وشيخوخهم، ولا شك أن ما ذكرناه من هذه الصفات المهمة في شخصية الداعية هي من العطايا العظيمة التي يهبها الله لفئة من عباده الذين أخلصوا القول والعمل.

سادسا: الصدق:

وظهر ذلك في أقواله وأفعاله ومخالطته للنَّاس، فكان صادقا في دعوتـه وفـي عرضها، وفى مخاطبته للنَّاس، ولا يهاب أحدا، ولا يخشى همزة هماز، ولا لمزة ماز, ولمس النَّاس صدقه في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وفي حربه للبدع، وفي تعليمه للناس وجهاده في سبيل الله فتأثر أتباعه به غاية التأثر. وحثنا القرآن الكريم على التخلق بهذه الصفة فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} (التوبة: ١١٩).

سابع: الإرادة القوية:

لقد شهد المؤرخون المُسْلِمون وغيرهم أن ابن ياسين – رحمه الله تعالى – كان ذا همة وعزيمة لا تهزها الجبال، آمن بسمو ،دعوته، وقدسية فكرته، وعزم على أن يعيش لها ويموت في سبيلها، وأدرك إن الأمانة التي يحملها ودخل بها الصحراء الكبرى تبعتها عظيمة؛ فعليه أن يصبر في عزيمة قوية وإيمان ثابت ويقين لا يدخله تردد ولا شك.

فداوم على العمل الجاد وأخذ بقوة وعزم ومثابرة ومصابرة حتى في تلك الصحاري القاحلة المقفرة الخالية من العلماء والفقهاء تحقق إعزاز دين الله عز وجل.

ثامنا: القدرة على الفهم والاستيعاب:

استطاع ابن ياسين أن يفهم ويستوعب المناهج العِلمِيَّة التي كانت في زمانه من فقه وحديث ولغة وأصول وغيرها من العلوم حتى تأهل لأن يكون أهلاً لحمل الرسالة التي كلفه بها شيوخه، كما انجلى قدرته على فهم واقعه الذي يريد تغييره وحدد أولويات المرحلة التي هو فيها وشرع في إصلاحها، كما أنه استوعب الظروف السياسية في زمانه، واستطاع أن يستفيد منها لدعوته.

فينبغي على العاملين في الدعوة الإسلامية أن يكون لهم وعي سياسي بواقعهم، وخبرة بالأساليب الحركية والتنظيمية، ومهارة في التخطيط المنظم المتزن حتى نستطيع أن نواجه العدوان الشرس الموجه لأمتنا الإسلامية ونتصدى له بأسلوب كله حكمة وحنكة.

ومن هنا يتوجب على الأخ الداعية، أن تكون عنده قدرة على الفهم والتجارب وسرعة في التنفيذ، وأن يتسلح بالمعرفة التامة، وأن يفهم دعوتـه حـق الفهـم كـي يستطيع أن يُبلغها حق التبليغ، قال عمر : لست بالخب، ولا الخب يخدعني».

تاسعا: النظر الثاقب والقدرة على الوصول للقرار الحاسم دون تردد:

ويظهر ذلك في سيرة الفقيه عبد الله بن ياسين عندما طلب فقهاء سلجسامة ودرعة في عام ٤٤٧هـ منه القدوم ليخلصهم من الحكام والطغاة الظلمة من زناتة المغروايين، ومن أميرهم مسعود بن أنودين فجمع ابن ياسين شيوخ قومه وقرأ عليهم رسالة فقهاء سلجسامة ، فأشاروا عليه بمد يد العون لهم، وقالوا له:

«أيها الشيخ الفقيه هذا ما يلزمنا فسر على بركة الله»؛ فأخذ قراره الحاسم، وتحركت جموع المرابطين في شهر صفر سنة ٤٤٧هـ إلى بلاد درعة، واشتبكت مع المغــروايين الذين انهزموا أمام المرابطين وتشتت جموعهم، ودخل ابن ياسين سلجسامة ، وأصلح أحوالها وقدم عليها عاملاً من أتباعه وجعل فيها حاميـة مـن جنوده ورجع إلى الصحراء

فعلى العاملين في الدعوة الإسلامية، الاتصاف بصفة النظر الثاقب، وسرعة اتخاذ القرار الحاسم دون أي تردد ودون أي ريب لأن الداعية الرباني ينظر بنور، وهذا النور الإلهي إذا حلَّ في قلب المؤمن يولّد فيه البصيرة الثاقبة، التي يعرف بها الحقائق، ويزن بها الأمور، ويدرك بها الصعاب {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} ( النور : ٣٥).

عاشرا: النظام والدقة:

وظهرت صفة النظام والدقة في شخصية الفقيه ابن ياسين عندما تكاثر عـدد المريدين في رباطه الذي اتخذه قريباً من نهر السنغال؛ حيث وضع شروطا في قبول كل جديد ليحفظ صفو جماعته من المخربين، فكان ينتقى أطهر الملثمين نفسا وأوفرهم قُوَّة وأقدرهم على تحمل المشاق، ومن توفرت فيه الشروط واجتاز التجربة بنجاح يتولى تعليمه وتثقيفه من قرآن وسنة وتفسير وحديث وأحكام الدين.

وأصبح رباطه قمة في النظام والدقة، واختار لإدارته أحد الأمراء، وفي الأمور المهمة كان الأمر شورى بين الجماعة الإسلامية المرابطة.

إن ديننا الإسلامي حَثنا على النظام في كل شيء، ومن التطبيقات العملية على ذلك نأخذ مثال السفر، حيث أمر الإسلام الركب إذا كانوا ثلاثة أن يؤمروا عليهم أميرا، حتى لا يختلفوا في الطريق وتتبعثر جهودهم.

فالمسلم لا يتربى تربية منظمة، إلا إذا كان في جماعة منظمة ذات ارتباط ونظام ودقة في كل شيء، وفي كل أمر، كما إن هذه الجماعة لها هدف جماعي، يتحقق بتعاون الفرد وانصهاره في بوتقة الطاعة والنظام.

الحادية عشر: القدرة على التعامل مع الناس:

تميزت شخصية الفقيه ابن ياسين بمقدرته في تعامله مع أصناف الناس من أمراء وعوام وتجار وغيرهم من طبقات المجتمع الصنهاجي. كان – رحمه الله – رقيق الشعور ثائر العاطفة، يقظ القلب بعيد الآمال، كبير المطامح في الإصلاح، وكان كل همه أن ينتفع الناس بعلمه ودعوته، ولذلك اختلط بالناس ودرس أخلاقهم وطبيعتهم عن كثب، وكان في خطابه لِلنَّاس متحليا بمكارم الأخلاق بعيدا عن التجريح والإساءة.

واتخذ من القرآن منهجاً في أسلوبه ودعوته متمثلاً بقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) } (النحل : ١٢٥) .

وقد وصف نبيه الكريم : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) } (آل عمران: ١٥٩) . فليقتد الداعي المسلم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليكن شأنه وديدنه لمن يدعوهم ويتحمل صدور أي أذى منهم. الاستعداد للبذل والتضحية بكل شيء.

وجدنا الفقيه عبد الله بن ياسين – رحمه الله – بذل نفسه وماله ووقته وحياته وكل شيء في سبيل الغاية التي خرج من أجلها إلى قبائل صنهاجة، وقد أيقن هذا الداعية الرباني أنه ليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه، إنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل.[9]

وفاته:

استشهد رحمه الله في حرب برغواطة بعد ثبات وبسالة في ساحة القتال في سنة (451هـ=1059م) وبعد أن أمضى أحد عشر عامًا من تربية الرجال على الجهاد.[10]

  1. الجوهر الثمين بمعرفة دولة المرابطين للصلابي, ص: 12

  2. الذهبي: سير أعلام النبلاء، 31/80.

  3. عبد الله بن ياسين.. سراج جزيرة تيدرة الذي أنار ظلمات الصحراء والمغرب / موقع الجزيرة

  4. الجوهر الثمين بمعرفة دولة المرابطين للصلابي, ص: 23

  5. موقع قصة الإسلام, إشراف, د: راغب السرجاني

  6. موقع قصة الإسلام, إشراف, د: راغب السرجاني

  7. موقع قصة الإسلام, إشراف, د: راغب السرجاني

  8. الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى, شهاب الدين الناصري, بتصرف

  9. باختصار من كتاب الجوهر الثمين, ص: 24-38

  10. موقع قصة الإسلام

لمشاهدة المحاضرة على يوتيوب مع الأستاذ فراس غالي

Leave A Reply

Your email address will not be published.