العمل الجماعي وأثره في التعليم والاجتهاد والقضاء

401

العمل الجماعي وأثره في عملية التعليم

مفهوم التعليم الجماعي:

هو محتوى حر من طرق تنظيم التفاعل الاجتماعي داخل الصف أو خارجه, بحيث تتحقق العملية التربوية على أكمل وجه, ويتخذ التعلم التعاوني شكل الجلسة الدائرية للطلاب وأسلوب الحوار والنقاش لتحقيق النتاجات التعلمية/ التعليمية بحيث يتعلموا معا دون اتكالية مطلقة على المعلم.[1]

رسولنا صلى الله عليه وسلم معلم البشرية:

قال الله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٢}[سورة الجمعة:2]

عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا”[2]

دليل نجاح الرسول صلى الله عليه وسلم في المجال التعليمي:

بنظرة يسيرة إلى ما كانت عليه البشرية قبل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، وإلى ما آلت إليه البشرية بعد رسالته، تعطينا أوضح شاهد ودليل على نجاحه صلى الله عليه وسلم كمعلم للبشرية. فأي معلم من المربين تخرَّج على يديه عدد أوفر وأهدى من هذا الرسول الكريم، الذي تخرج من تحت يديه هؤلاء الأصحاب والأتباع؟ فكيف كانوا قبله؟ وكيف صاروا بعده؟!

إن كل واحد من هؤلاء الأصحاب دليل ناطق على عظم هذا المعلم المربي الفريد الأوحد، وهذا يذكرنا بكلمة طيبة لبعض الجهابذة الأصوليين، يقول فيها: “لو لم يكن لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – معجزة إلا أصحابه، لكفوه لإثبات نبوته”.[3]

تقول إحدى المستشرقات: “مِن المستحيل لأي شخص يدرس حياة وشخصية نبي العرب العظيم، ويعرف كيف عاش هذا النبي، وكيف علّم الناس – إلا أن يشعر بتبجيل هذا النبيِّ الجليل، أحد رسل الله العظماء، ورغم أنني سوف أعرض فيما أروي لكم أشياء قد تكون مألوفة للعديد من الناس، فإنني أشعر في كل مرة أعيد فيها قراءة هذه الأشياء بإعجاب وتبجيل متجددينِ لهذا المُعلِّم العربي العظيم”.[4]

المطلب الأول: الأساليب النبوية التعليمية الجماعية:

1_ التعليم عبر نظام المجموعات الصغيرة (الحلقات):

قال أنس – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: “إِنَّمَا كَانُوا إِذَا صَلُّوا الغَدَاةَ قَعَدُوا حلقاً حلقاً، يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ، وَيَتَعَلَّمُونَ الفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ”[5]

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ بَعْضِ حُجَرِهِ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِحَلْقَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، وَيَدْعُونَ اللَّهَ، وَالأُخْرَى يَتَعَلَّمُونَ وَيُعَلِّمُونَ، فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – : كُلٌّ عَلَى خَيْرٍ، هَؤُلاَءِ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، وَيَدْعُونَ اللَّهَ، فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ، وَهَؤُلاَءِ يَتَعَلَّمُونَ وَيُعَلِّمُونَ، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا , فَجَلَسَ مَعَهُمْ”[6].

وقد عقد الإمام اليوسي فصلا في قانونه ذكر فيه أصول طرق نشر العلم، فقال: أما التعليم بصورة التدريس فأصله ما كان صلى الله عليه وسلم يفعله في مجالسه مع أصحابه، من تبيين الأحكام والحكم والحقائق، وتفسير الآيات القرآنية، وذكر فضائلها وخواصها، وغير ذلك. وهم في ذلك مجتمعون عليه، فهذا تقرير وتبيين.

قال تعالى: {بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِۗ وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ ٤٤}[سورة النحل:44]

وهذه حلقة العلم، ولم تزل حلق العلم على العلماء كذلك، وهلم جرا.[7]

كذلك الصحابة رضي الله عنهم لم يكتفوا بالتلقي عن الرسول صلى الله عليه وسلم وسؤاله عن أحكام الشرع, بل كانوا يتجالسون مع بعضهم يتفقهون في الدين ويتدارسون القرآن ويتذاكرونه فيما بينهم, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهدهم ويرشدهم ويصوبهم ويشجعهم.

2_ التعليم بالحوار:

من أبرز أساليبه صلى الله عليه وسلم في التعليم الحوار والمساءلة, لإثارة انتباه السامعين وتشويق نفوسهم إلى الجواب, وحضهم على إعمال الفكر للجواب, ليكون جواب النبي صلى الله عليه وسلم – إذا لم يستطيعوا الإجابة- أقرب إلى الفهم وأوقع في النفس.

ومن أشهر أمثلة الحوار حديث جبريل في تعليم أركان الإيمان ،الذي رواه عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة، فقد عرضت أهم أركان الإيمان على الصحابة على شكل حوار بين الرسول وبين جبريل عليهما الصلاة والسلام، ليعلمهم معالم دينهم.[8]

فعن يحيى بن يعمر، سمع ابن عمر، قال: حدثني عمر بن الخطاب ، قال: بينما نحن ذات يوم عند نبي الله – صلى الله عليه وسلم – إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى، قال يزيد : لا نرى ، عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى نبي الله – صلى الله عليه وسلم – ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، ثم قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، ما الإسلام ؟ فقال الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال: صدقت. قال: فعجبنا له، يسأله ويصدقه. قال: ثم قال: أخبرني عن الإيمان. قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر كله خيره وشره قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان، ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك قال : فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسئول عنها بأعلم بها من السائل قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البناء قال: ثم انطلق، قال: فلبث مليا، فقال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: يا عمر أتدري من السائل ؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم”[9]

قال ابن المنير في قوله صلى الله عليه وسلم “يعلمكم دينكم” دلالة على أن السؤال الحسن يسمى علما وتعليما لأن جبريل لم يصدر منه سوى السؤال ومع ذلك فقد سماه معلما وقد اشتهر قولهم” “حسن السؤال نصف العلم” ويمكن أن يؤخذ من هذا الحديث لأن الفائدة فيه انبنت على السؤال والجواب معا.[10]

3_ترك استخراج الجواب للمتعلم:

إن ترك المعلم الطالب يستخرج الجواب بنفسه، وسيلة نافعة في إعمال الذهن، وتحريضه على التفكير والإدلاء بالجواب. ويكفي هذه الطريقة فائدة، أنها شحذت الذهن والحواس، وجعلتها تبحث جاهدة للعثور على الجواب المطلوب، وهذا في حد ذاته تقدما ومكسبا ينضاف إلى رصيد الطالب. وبيان ذلك، بأن يطرح المعلم مسألة معينة، ثم يقربها لهم ويترك الجواب أو الحكم النهائي لهم. وقد تكون هذه المسألة المطروحة تستلزم جوابا من الطالب، وقد لا تستلزم ذلك ولكنها تتطلب إعمالا ذهنيا وشحذا فكريا.[11]

عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوما لأصحابه: أخبروني عن شجرة مثلها مثل المؤمن، قال : فجعل القوم يتذاكرون شجرا من شجر الوادي قال عبد الله: وألقي في نفسي أو روعي أنها النخلة، قال: فجعلت أريد أن أقول، فأرى أسنانا من القوم، فأهاب أن أتكلم، فلم يكشفوا، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: هي النخلة, قال: فذكرت ذلك لعمر، فقال عمر: لأن تكون قلت: هي النخلة، أحب إلي من كذا وكذا.[12]

وفي هذا الحديث من الفوائد:

أ_ استحباب إلقاء العالم المسألة على أصحابه, ليختبر أفهامهم, ويرغبهم في الفكر والاعتناء, مع بيانه لهم ما خفيه عليهم إن لم يفهموه.[13]

ب_ امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى مع بيانه لهم إن لم يفهموه.

ج_ التحريض على الفهم في العلم وقد بوب عليه المؤلف باب الفهم في العلم.[14]

4_ تفويضه صلى الله عليه وسلم المتعلم بالجواب والتعليق عليه:

عن ابن شهاب، أن عبيد الله بن عبد الله أخبره، أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يحدث، أن رجلا أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – ، فقال: يا رسول الله، إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، وإذا الناس يتكففون منها بأيديهم، فالمستكثر والمستقل، وأرى سببا واصلا من السماء إلى الأرض، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل من بعدك فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به، ثم وصل له فعلا. قال أبو بكر: يا رسول الله، بأبي أنت والله لتدعني فلأعبره، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: عبر، قال أبو بكر: أما الظلة فظلة الإسلام، وأما الذي ينطف من السمن والعسل، فالقرآن حلاوته ولينه، وأما ما يتكفف الناس من ذلك، فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض، فالحق الذي أنت عليه، أخذته فيعليك الله، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو، فأخبرني يا رسول الله، بأبي أنت، أصبت أم أخطأت ؟ قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أصبت بعضا، وأخطأت بعضا، قال : والله يا رسول الله، لتخبرني بالذي أخطأت، قال: لا تقسم.”[15]

يحتاج المعلم إلى التعليق على إجابة الطالب بعد تفويضه بالجواب على السؤال المطروح، وذلك لأن الطالب قد يكون غير متأكد من الإجابة التي أدلى بها، وأيضا فإن الطلاب الآخرين الذي يستمعون إلى إجابة الطالب في شوق لمعرفة ما إذا كانت إجابة الطالب صحيحة أم غير ذلك . وعلى المعلم أن يعلق على إجابة كل طالب فيستفيد الطالب من تصويب المعلم له، و يستفيد الطلاب الآخرون بمعرفة صحة الجواب من عدمه.[16]

5_ القراءة على النبي صلى الله عليه وسلم:

القراءة على العالم والشيخ تعتبر من أهم الطرق العلمية للحفظ والفهم، لأن الطالب لا يمكن أن يشرد ذهنه في هذه الحال، فهو يقرأ والكل يسمع، وقد اعتبرها المحدثون أعلى درجات الضبط، وحق لهم ذلك والمعنى أن الطالب يقرأ في الكتاب الذي ألفه العالم، والباقي يسمعون، والشيخ يصحح له أو زملاؤه إن قدروا على ذلك، والشيخ يعلق ويعقب ويشرح ويملي عليهم، وهم يكتبون ذلك، وربما كتب ذلك على السبورة وهو الأفضل.[17]

عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال لي النبي – صلى الله عليه وسلم – « اقرأ على » .قلت آقرأ عليك وعليك أنزل قال « فإني أحب أن أسمعه من غيرى . فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} {(41) سورة النساء }قال « أمسك ». فإذا عيناه تذرفان.[18]

المطلب الثاني: فوائد التعليم الجماعي:

1_ تحسين قدرات التفكير لدى الطلاب.

2_ زيادة ثقة الطالب بنفسه.

3_ ارتفاع معدلات التحصيل لدى الطلاب.

4_ زيادة القدرة على النقاش.

5_ زيادة الحافز الذاتي للتعلم.

6_ تدريب الطالب على الوصول إلى المعلومة بنفسه.[19]

وقفة:

إن مانراه اليوم في مدارسنا وللأسف من اعتماد المعلم على الجلوس وراء الطاولة وقراءة الدرس من الكتاب بلغة باردة لا روح فيها ولا تفاعل هي أحد الأسباب الرئيسية في فشل عملية التعليم, فدور المعلم في الإسلام ليس مجرد ملقن للمتعلم فقط, بل هو صاحب رسالة سامية وعبادة راقية تستوجب عليه تطوير مهاراته وأساليبه التدريسية وعلى رأسها إشراك الطالب وضمان تفاعله في العملية التعليمية من خلال ورشات العمل وتعميق مهارات التواصل وإفساح المجال أمام الطلاب لحرية البحث والمناقشة و المدارسة فيما بينهم ضمن الضوابط اللازمة للوصول إلى جيل متميز يحمل هم الإسلام بنفسه ويعمل أن يزرعه في غيره.

العمل الجماعي وأثره في الاجتهاد والقضاء

المطلب الأول: الاجتهاد الجماعي

تعريف الاجتهاد:

لغة: بذل الوسع والطاقة، ولا يستعمل إلا فيما فيه جهد ومشقة، يقال: اجتهد في حمل الرحى، ولا يقال: اجتهد في حمل النواة.[20]

اصطلاحا: بذل الوسع في النظر في الأدلة الشرعية لاستنباط الأحكام الشرعية.[21]

مفهوم الاجتهاد الجماعي:

هو الذي ينبثق مضمونه ويصدر عن جماعة من العلماء, بعد التشاور والتحاور في المسألة المجتهد فيها, فدخول عنصري ( التحاور والجماعة) في الجهد الاجتهادي, وفي الموافقة على نتيجته هو الذي يعطي الاجتهاد صفة الجماعي.[22]

توجيه النبي صلى الله عليه وسلم صحابته لاعتماد مبدأ الاجتهاد الجماعي:

عن علي قال: «قلت: يا رسول الله، إن نزل بنا أمر ليس فيه بيان أمر ولا نهي، فما تأمرني؟ قال: ” شاوروا [فيه] الفقهاء والعابدين، ولا تمضوا فيه رأي خاصة».[23]

قال الجويني رحمه الله: (إن أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم استقصوا النظر في الوقائع والفتاوى والأقضية، فكانوا يعرضونها على كتاب الله تعالى، فإن لم يجدوا فيه متعلقًا راجعوا سنن المصطفى عليه السلام، فإن لم يجدوا فيها شفاء اشتوروا واجتهدوا، وعلى ذلك درجوا في تمادي دهرهم إلى انقراض عصرهم، ثم استن بسنتهم من بعدهم).[24]

ممارسة الصحابة للاجتهاد الجماعي:

عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أبا بكر رضى الله عنه كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي والفقه دعا رجالا من المهاجرين ورجالا من الأنصار، ودعا عمر وعثمان وعليا وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبى بن كعب وزيد بن ثابت رضى الله عنهم، فمضى أبو بكر على ذلك ثم ولى عمر رضى الله عنه وكان يدعو هؤلاء النفر فإن اتفق أمر مشكل شاورهم فيه، فإن اتضح له الحق حكم به، فإن لم يتضح أخَّره إلى أن يتضح، ولا يقلد غيره لأنه مجتهد فلا يقلد.[25]

عن عبيد بن رفاعة عن أبيه رفاعة بن رافع قال: بينما أنا عند عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إذ دخل عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين هذا زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد برأيه في الغسل من الجنابة، فقال عمر: علي به، فجاء زيد، فلما رآه عمر فقال عمر: أي عدو نفسه قد بلغت أن تفتي الناس برأيك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، والله ما فعلت، ولكن سمعت من أعمامي حديثا فحدثت به من أبي أيوب، ومن أبي بن كعب، ومن رفاعة بن رافع، فقال عمر: علي برفاعة بن رافع، فقال: قد كنتم تفعلون ذلك إذا أصاب أحدكم المرأة فأكسل أن يغتسل، قال: قد كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يأتنا فيه عن الله تحريم، ولم يكن فيه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شيء، فقال عمر: ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعلم ذلك؟ قال: ما أدري، فأمر عمر بجمع المهاجرين والأنصار، فجمعوا، فشاورهم فشار الناس أن لا غسل، إلا ما كان من معاذ وعلي فإنهما قالا: إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل، فقال عمر: هذا وأنتم أصحاب بدر قد اختلفتم، فمن بعدكم أشد اختلافا، فقال علي: يا أمير المؤمنين إنه ليس أحد أعلم بهذا من شأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من أزواجه، فأرسل إلى حفصة فقالت: لا علم لي، فأرسل إلى عائشة فقالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فقال: لا أسمع برجل فعل ذلك إلا أوجعته ضربا.[26]

وقد حرص عمر رضي الله عنه، على أن يكون هذا المنهج الجماعي في الاجتهاد، هو الأسلوب الذي ينبغي أن يسير عليه ولاة الأمور في الأقاليم، فقد كان يوصي ولاته باتباع هذا الأسلوب، ومن ذلك ما قاله لشريح: (انظر في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا، وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع سنة رسول الله، وما لم يتبين لك في السنة، فاجتهد فيه رأيك، واستشر أهل العلم والصلاح)[27]

قال أبو شهاب الحناط: سمعت أبا حصين يقول: إن أحدهم ليفتي في المسألة, ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر.[28]

حاجة الأمة إلى الاجتهاد الجماعي:

إن مقدار التغير في أحوال الأمة وأحوال الإنسان في العقود الماضية أكبر من التغير الذي كان يحصل في قرون, وقد اختلفت خصائص الحياة المعاصرة عن خصائص الحياة فيما مضى, وحدثت في حياة البشر أمور جديدة كثيرة, وتزايدت حاجة المسلمين لمعرفة أحكام الأمور والأحوال الجديدة التي تخص الأفراد, أو تعم المجتمع والأمة.

ومما حصل في العصر الحاضر ذلك التيسير في البحث العلمي الذي أحدثه الحاسب الآلي {الكمبيوتر} وتلك اليسرة إلى اللقاء والبحث والتشاور بين العلماء بواسطة وسائل النقل والاتصال المتجددة, فكان لا بد من الاستفادة من هذه المتجددات التي تيسر استفادة العلماء من آراء واجتهادات بعضهم البعض وتسهل اقتباسهم مما مضى من تراث هذه الأمة الذي أنتجته جهود علمائها في مختلف عصورها.

وهذا الاجتهاد الجماعي تطبق فيه الأمة قول الله تعالى: { وأمۡرهمۡ شورىٰ بيۡنهمۡ }[سورة الشورى:38]

وبه تستخرج الأمة من الشريعة السمحة التي ضمنها العليم الحكيم سبحانه وتعالى جميع مصالح العباد في كل العصور أصح الأحكام الاجتهادية وأكثرها ملاءمة لمصالحها في حياتها المتطورة.

ولا يخفى أن ما ينتج عن اجتهاد ومشاورات العلماء فيما بينهم أصح وأنفع مما يصدر عن اجتهاد عالم واحد, ولذلك كان الاجتهاد الجماعي من أهم حاجات الأمة في هذا العصر.

وقد جعل الله تعالى هذه الشريعة قادرة على الوفاء بمقتضيات تطور الحياة البشرية.[29]

فوائد الاجتهاد الجماعي:

1_ سلامة الأمة من اضطرابات الأقوال الفقهية المتعارضة التي لا يمكن احتمالها في شؤون الأمة العامة, وإن قبل احتمالها في أحكام الطهارة والصلاة وغير ذلك من الأمور المتعلقة بالأعمال الفردية التي لا يترك اختلاف الاجتهادات فيها آثارا سلبية في الأمة.

2_ عامل مهم ومفيد في حماية الأمة من أضرار الفتاوى الشاذة التي تصدر عن أناس لم تتحقق فيهم أهلية الفتوى.[30]

3_ سد الفراغ الذي يحدثه غياب المجتهد المطلق.

4_ تحقيق التكامل بين الساعين للاجتهاد.[31]

5_ اتحاد الآراء واجتماع الأفكار بين علماء المسلمين المنتمين إلى البلاد الإسلامية كلها يعطيهم وزنا ومكانة لا ينتزعهما حاكم مستبد ولا سلطان جائر.[32]

6_ الاجتهاد الجماعي أكثر قبولا على مختلف المستويات الفردية والرسمية.[33]

المطلب الثاني: القضاء الجماعي:

تعريف القضاء:

لغة: قال ابن منظور: القضاء: الحكم والجمع: أقضية, وقضى عليه يقضي قضاء وقضية.

واستقضى فلان: أي جعل قاضيا يقضي بين الناس.[34]

اصطلاحا: عرفه ابن خلدون: القضاء: هو منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسما للتداعي وقطعا للتنازع, إلا أنه بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة.[35]

مفهوم القضاء الجماعي:

المقصود به أن تعرض الخصومة على محكمة مشكلة من عدد من القضاة يقومون بدراستها وتحقيقها والفصل فيها.[36]

تطبيق الصحابة لمبدأ القضاء الجماعي:

روى ميمون بن مهران: (أن أبا بكر رضي الله عنه كان إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رســـول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك الأمــر سنـــة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر، كلهم يذكر من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا. فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه و سلم، جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به).[37]

وقد جاء في (أخبار القضاة) “أن عثمان بن عفان، الخليفة الراشد الثالث، كان إذا جلس للقضاء، أحضر أربعة من الصحابة رضي الله عنهم واستشارهم، فما أفتوه به أمضاه، وهم: علي، وطلحة بن عبيد الله، والزبير، وعبد الرحمان، وقال للمتحاكمين: هؤلاء قضوا، لست أنا”

وهذا النهج الشوري في القضاء، يمثل أصلا أصيلا لفكرة القضاء الجماعي. كما أنه سابق ومتفوق على نظام المستشارين المحلفين المعمول به في الغرب.

يقول الأستاذ علال الفاسي: “ويمتاز النظام القضائي الإسلامي في الأندلس والمغرب بالمشاورين، أو المفتين الذين يدعوهم (أي القاضي) لمساعدته على تلمس وجه الحق في المسائل المعروضة عليه. وهو أفضل من نظام المحلفين الذي ازدهر في القضاء الإنجليزي، ثم اقتبسته الأنظمة الأوروبية”[38]

مزايا القضاء الجماعي:

1_ يتميز القضاء الجماعي بأنه أكثر تحقيقا للعدالة التي جاء بها الشرع, خاصة مع تعقد القضايا وتغير الذمم وكثرة التحايل لأكل حقوق الناس من بعض ضعاف النفوس.

2_ يتيح الفرصة للتشاور بين أعضاء الهيئة القضائية والتروي قبل إصدار الحكم. قال أحمد: لما ولي سعد بن إبراهيم قضاء المدينة، كان يجلس بين القاسم وسالم يشاورهما، وولي محارب بن دثار قضاء الكوفة، فكان يجلس بين الحكم وحماد يشاورهما، ما أحسن هذا لو كان الحكام يفعلونه، يشاورون وينتظرون. ولأنه قد ينتبه بالمشاورة، ويتذكر ما نسيه بالمذاكرة، ولأن الإحاطة بجميع العلوم متعذرة. وقد ينتبه لإصابة الحق ومعرفة الحادثة من هو دون القاضي، فكيف بمن يساويه أو يزيد عليه.[39]

3_ التقليل من عواطف القاضي على حكمه, كالغضب الشديد والهم الشديد والتعاطف مع أحد المتهمين ونحو ذلك.

4_ يلقى الحكم الجماعي قبولا أكثر لدى المتقاضين لما جبل عليه الناس من تقديم لرأي الجماعة على رأي الفرد.[40]

  1. الربيعي, محمود داود, المرتكزات الأساس للتعلم التعاوني, ص: 68
  2. صحيح مسلم, بَابُ بَيَانِ أَنَّ تَخْيِيرَ امْرَأَتِهِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا إِلَّا بِالنِّيَّةِ, 2/ 1102, رقم: 1478
  3. أبو غدة, عبد الفتاح, الرسول المعلم, بتصرف يسير, ص: 14
  4. آن بيزينت: حياة وتعاليم محمد دار مادرس للنشر 1932
  5. مسند أبي يعلى, 7/129, رقم: 4088/ قال الهيثيمي في مجمع الزاوئد: فيه يزيد الرقاشي وهو ضعيف
  6. سنن ابن ماجة, بَابُ فَضْلِ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ, 1/83, رقم: 229, قال الشيخ علي شحود: حسن لغيره (الأساليب النبوية في التعليم, ص: 1)
  7. الكتاني, عبد الحي, نظام الحكومة النبوية, 2/152
  8. أبو غدة, عبد الفتاح, الرسول المعلم, ص: 92_95
  9. صحيح مسلم, بَابُ معرفة الْإِيمَانِ، وَالْإِسْلَامِ، والقَدَرِ وَعَلَامَةِ السَّاعَةِ, 1/36, رقم: 8
  10. فتح الباري, 1/125
  11. شحود, علي, الأساليب النبوية في التعليم, ص: 244
  12. صحيح مسلم, بَابُ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ النَّخْلَةِ, 4/2164, رقم: 2811
  13. أبو غدة, عبد الفتاح, الرسول المعلم, ص: ص: 108
  14. فتح الباري, ص: 146
  15. صحيح البخاري, 9/43, بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ الرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِرٍ إِذَا لَمْ يُصِبْ, رقم: 7046
  16. شحود, علي, الأساليب النبوية في التعليم, ص: 283
  17. المصدر السابق, ص: 370
  18. صحيح البخاري, بَابُ البُكَاءِ عِنْدَ قِرَاءَةِ القُرْآنِ, 6/197, رقم: 5055
  19. الشبل, عبد العزيز, فكرة التعلم التعاوني, ص: 3
  20. المصباح المنير, 1/112
  21. روضة الناظر, 2/401
  22. الريسوني, أحمد, الاجتهاد الجماعي, ص: 3
  23. الطبراني في الأوسط, 2/172, رقم: 1618, قال الهيثيمي في مجمع الزوائد: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ مِنْ أَهْلِ الصَّحِيحِ., 1/178
  24. غياث الأمم, 1/431
  25. المجموع شرح الهذب, 20/138
  26. إعلام الموقعين, 1/45
  27. الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي, 1/490
  28. سير أعلام النبلاء, 6/138
  29. المجذوب, اسماعيل, قواعد واحكام مهمة للعاملين والمهتمين بشؤون الأمة, ص: 19
  30. نفس المصدر السابق, ص: 19
  31. السوسه, عبد المجيد, الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي, ص: 77
  32. الغزالي, محمد, الفساد السياسي, ص: 101
  33. الزحيلي, محمد, الوجيز في أصول الفقه, 2/252
  34. لسان العرب, 3/111
  35. المقدمة, ص: 220
  36. الدغيثر, عبد العزيز, القضاء الجماعي والقضاء الفردي, ص: 40
  37. رواه الدارمي في “سننه” (1/ 58)
  38. الريسوني, أحمد, الاجتهاد الجماعي, ص: 8
  39. المغني, 10/46
  40. الدغيثر, عبد العزيز, القضاء الجماعي والقضاء الفردي, ص: 40
Leave A Reply

Your email address will not be published.