الوزيرنظام الملك الطوسي ودوره في الإصلاح والبناء

444

-أصله ونشأته:

نظام الملك الوزير هو أبو علي الحسن بن على بن إسحق قوام الدين الطوسي ، فارسي الأصل، وتشير المصادر الى أن والده كان دهقانا.[1]

ولد نظام الملك بالقرب من مدينة طوس من اقليم خراسان سنة ٤٠٨ هـ / وقد توفيت والدته خلال فترة طفولته المبكرة، ولذلك فقد نشأ تحت رعاية والده.

وتجمع المصادر على أنه تعلم اللغة العربية في فترة مبكرة من حياته وليس هذا بغريب فقد كانت العربية لغة العقيدة والعلم والأدب في عصره, ثم تفرغ لدراسة علم الحديث بعد حفظه للقرآن الكريم وكان عمره 11 سنة.[2]

اهتمامه بعلم الحديث:

قطع نظام الملك شوطا كبيرا في التخصص في علم الحديث, فكان له مجلس خاص به يجتمع عليه فيه المتعلمون يأخذون عنه ويسمعون منه.

يقول ابن كثير: وكان مجلسه-يعني: نظام الملك-عامرًا بالفقهاء والعلماء، بحيث يقضي معهم عامة أوقاته، فقيل له: إن هؤلاء قد شغلوك عن كثير من المصالح، فقال: هؤلاء جمال الدنيا والآخرة، ولو أجلستهم على رأسي ما استكثرت ذلك.

وقد حكى التاج السبكي في طبقات الشافعية: أن أبا علي الحسن بن علي الطوسي حدث يوما ثم قال: إني لأعلم أني لست أهلا لما أتولاه من هذا الإملاء, لكني أريد أن أربط نفسي على قطار نقلة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم”.[3]

مناقبه:

قال عنه الذهبي: “الوزير الكبير، نظام الملك، قوام الدين، أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، عاقل، سائس، خبير، سعيد، متدين، محتشم، عامر المجلس بالقُرَّاء والفقهاء، أنشأ المدرسة الكبرى ببغداد، وأخرى بنيسابور، وأخرى بطوس، ورغب في العلم وأدرَّ على الطلبة الصلات، وأملى الحديث”.

وَكَانَ فِيْهِ خَيْرٌ وَتَقْوَى، وَمَيْلٌ إِلَى الصَّالِحِيْنَ، وَخُضوعٌ لِمَوعِظتهم، يُعْجِبُهُ مَنْ يُبَيِّنُ لَهُ عيوبَ نَفْسه، فَيَنكسِرُ وَيَبْكِي.[4]

قال عماد الدين الأصفهاني: كان نظام الملك مخصوصا من الله بالنصر والفتح والظفر، الدهماء ساكنة في أيامه, وأهل الدين والعلم والفضائل راتعون في إنعامه.

قال ابن الأثير: كَانَ عَالِمًا، دَيِّنًا، جَوَادًا عَادِلًا، حَلِيمًا كَثِيرَ الصَّفْحِ عَنِ الْمُذْنِبِينَ، طَوِيلَ الصَّمْتِ، كَانَ مَجْلِسُهُ عَامِرًا بِالْقُرَّاءِ، وَالْفُقَهَاءِ، وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، وَكَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ يَحْضُرَ الْفُقَرَاءُ طَعَامَهُ، وَيُقَرِّبَهُمْ إِلَيْهِ، وَيُدْنِيَهُمْ. وَأَخْبَارُهُ مَشْهُورَةٌ كَثِيرَةٌ، قَدْ جُمِعَتْ لَهَا الْمَجَامِيعُ السَّائِرَةُ فِي الْبِلَادِ.

وَكَانَ إِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَمْسَكَ عَنْ كُلِّ مَا هُوَ فِيهِ وَتَجَنَّبَهُ، فَإِذَا فَرَغَ لَا يَبْدَأُ بِشَيْءٍ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَكَانَ إِذَا غَفَلَ الْمُؤَذِّنُ، وَدَخَلَ الْوَقْتُ يَأْمُرُهُ بِالْأَذَانِ، وَهَذَا غَايَةُ حَالِ الْمُنْقَطِعِينَ إِلَى الْعِبَادَةِ فِي حِفْظِ الْأَوْقَاتِ، وَلُزُومِ الصَّلَوَاتِ.[5]

– تدرجه في مناصب الدولة:

بعد أن تعدى نظام الملك مرحلة الطفولة والشباب المبكر وعلى إثر إتمامه لدراسة اللغة العربية وعلوم الدين، رحل عن طوس وانتقل الى غزنة حيث عمل في الديوان السلطاني هناك, ثم بعدَ ذلك اتَّصَلَ بداود بن ميكائيل السلجوقيِّ فظَهَرَ له منه النُّصْحُ والمَحَبَّةُ،، فأَخذَهُ بِيَدِهِ وسَلَّمَهُ إلى وَلَدِه ألب أرسلان، وقال له: يا محمد، هذا حَسَنٌ الطُّوسيُّ اتَّخِذهُ والِدًا ولا تُخالِفهُ. فلمَّا وَصَلَ المُلْكُ إلى ألب أرسلان استَوزَرَهُ، فدَبَّرَ مُلكَه عشر سنين. ولمَّا ماتَ ألب أرسلان، ازدَحَم أَولادُه على المُلْكِ، فقام بأَمْرِ ملكشاه حتّى تَمَّ أَمرُه ومَلَكَ السَّلطَنَةَ.

كان لنظام الملك مكانة خاصة في نفوس سلاطين السلاجقة وعلى رأسهم ألب أرسلان الذي منحه لقب أتابك[6] تقديرا لخدماته من جهة وتكريما له. [7]

جهاده ومشاركته في الفتوحات:

يقول السبكي واصفا شجاعته: يُقَاتل لتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا ويناضل فَلَا يدع فِي حَيّ الْأَعْدَاء حَيا ويبارز حَيْثُ تتأخر الْجِيَاد السنابك ويجاوز فَلَا تسمع إِلَّا من يَقُول وَمَا النَّاس إِلَّا هَالك وَابْن هَالك.[8]

شارك نظام الملك في كثير من الفتوحات والمعارك برفقة ألب أرسلان وملكشاه بالجهاد السيف ومشورة العقل, ومن تلك الفتوحات: فتح مدينة آني الحصينة وكذلك قلعة سرماري وهي قلعة فيها في المياه الجارية والبساتين فقاتلوها وملكوها وأنزلوا منها أهلها وكان بالقرب منها قلعة أخرى ففتحها ملكشاه وأراد تخريبها فنهاه نظام الملك عن ذلك وقال‏:‏ هي ثغر للمسلمين وشحنها بالرجال والذخائر والأموال والسلاح وسلم هذه القلاع إلى أمير نقجوان‏.‏

وسار ملكشاه ونظام الملك إلى مدينة مريم نشين وفيها كثير من الرهبان والقسيسين وملوك النصارى وعامتهم يتقربون إلى أهل هذه البلدة وهي مدينة حصينة ففتح الله لهم.[9]

العمل على جمع كلمة المسلمين:

توطيد العلاقة بين العباسيين والسلاجقة:

كان نظام الملك يعمل دائما على تحسين العلاقة بين سلاطين السلاجقة والخلافة العباسية وإرسـائها على قواعد راسخة, إيمانا منه بمكانة الخلافة العباسية وشرعيتها. كما أنه أدرك بأن الهدف المشترك والعدو المشترك يوحد بينهما ويجعل مصيرهما واحدا في مواجهه الخطر المشترك الذي كان يوجب التنسيق والتعاون المستمر المخلص بينهما من أجل القضاء عليه. والتأكيد على أسمى رابطة تجمع الطرفين ألا وهي رابط الإسلام.[10]

رفض التعصب المذهبي:

عندما وقعت فتنة الحنابلة والشافعية ببغداد سنة 469هـ/1076م رفض النظام فكرة نصرة جماعته (الشافعية)، بل طالبهم باحترام الأغلبية الحنبلية في موطنها، وقال وفقا للسبكي: “لا يمكن تغيير المذاهب ولا نقل أهلها عنها، والغالب على تلك الناحية (بغداد) مذهبُ أحمد (بن حنبل ت 241هـ/855م)، ومحلُّه معروف عند الأئمة وقدره معلوم في السُّنة”.

ثم بيّن الوزير سياسته في التعاطي مع مختلف المذاهب ومقصدَه من تأسيس المدرسة النظامية؛ فقال حسب ابن الجوزي في ‘المنتظم‘: “وليس توجب سياسة السلطان وقضية العدالة إلى أن نميل في المذاهب إلى جهة دون جهة، ونحن بتأييد السنن أولى من تشييد الفتن، ولم نتقدم ببناء هذه المدرسة إلا لصيانة أهل العلم أو المصلحة، لا للاختلاف وتفريق الكلمة”.[11]

الأعمال الإدارية:

آلية اختيار المسؤولين:

كان نظام الملك يقوم كونه بمنصب الوزارة بتنظيم أمور الدولة بشكل لائق دقيق ورصين, فكان يولى جميع مصالح الدولة كثيرا من رعايته واهتمامه إضافة إلى أنه كان حريصا على أن يختار للمناصب العامة الأشخاص الأمناء المخلصين القادرين على تحمل المسؤولية, وفي نفس الوقت كان يدرك عظم المسؤولية الملقاة على عاتق هؤلاء العاملين ، فكان يضاعف الأجر حرصا منه على ضمان سير العمل في أجهزة الدولة ومؤسساتها وتشجيعا للعاملين فيها على مداومة نشاطهم, وكان لا يترك شئون الدولة بأيدي أولئك الذين لا يقدرون على تحمل المسؤولية.[12]

الاهتمام بالمؤسسة العسكرية:

أولى نظام الملك التشكيلات العسكرية اهتماما كبيرا وأكد على ضرورة مواظبة الجند على أداء عملهم على أفضل وجه.

حيث قام بتقسيم المملكة إلى أربع وعشرين منطقه عسكرية راعى فيها الروابط والعلاقات القبلية التي كانت فعالة في ترابط الافراد والتزامهم بإطاعة رئيس القبيلة وكان الجنود يقضون أشهر الصيـــف في التدريب أو الغزو ، أما في الشتاء حيث يكون الجو غير ملائم للقتال فإنهم يتفرقون في إجازتهم

ويذكر أن بعض المفسدين قال للسلطان ملكشاه: إن في معيشك أربعمائة ألف فارس، وأمر المملكة يتمشى بسبعين ألفاً، فإن سبعين ألفاً لم يغلبوا من القلة، فلو أسقطتهم امتلأت الخزانة من المال! ومال السلطان إلى قوله، فلما عرف نظام الملك ذلك قال للسلطان: هذا قول من أراد اثارة الفتنة وفساد المملكة! إن ملكك خراسان وما وراء النهر إلى كاشغر من غور وخوارزم واللان واران وآذربيجان، والجبال والعراق وفارس وكرمان والشام وارمن وأنطاكية، وانها إنما تبقى محفوظة بهذه العساكر، ولم يذكر أن دولة الخلفاء العظام والملوك الكبار قد خلت من خروج خارجي وظهور مخالف، وهذه الدولة المباركة بسعادة السلطان سلمت عن الكدورات، فلو كانت العساكر ثمانمائة ألف لكانت السند والهند والصين ومصر والبربر والحبشة والروم أيضاً في طاعتنا. ثم ان السلطان ان أثبت سبعين ألفاً وأسقط ثلاثمائة وثلاثين ألفاً، فالساقطون ليسوا أصحاب حرف يشتغلون بصنعتهم، يجتمعون على يد واحد، ويدخلون تحت طاعته، فنشأ من ذلك فساد عظيم ويكون الخصم في ثلاثمائة وثلاثين ألفاً ونحن في سبعين ألفاً، فتمشي الأموال وتهلك، فاستجاب السلطان لنصيحته.[13]

تنظيماته الاقتصادية:

في أيام نظام الملك قام بإسقاط الْمُكُوسَ، وَالضَّرَائِبَ،, وكان عنوان سياسته المالية: عدم صرف الاموال بدون وجه حق, حيث كان للسلطان نسباء يدلون بنسبه، ويدلون بسببه، ويستطيلون بأنهم ذو قرابته فقصر أيديهم، ومنع تعديهم. وساس جمهورهم بتدبيره، ونظم أمورهم بسياسته.

ومن الاجراءات الاقتصادية التي اتخذها نظام الملك ، أنه كان يكـثر من نفاق الصدقات . فكان يجتمع بمدرسته من الفقراء والمساكين من لا يحصى.[14]

المدارس النظامية:

لقد بدأ التفكير الفعلي في إنشاء هذه المدارس النظامية للوقوف أمام المد الشيعي الإمامي، والإسماعيلي الباطني عقب اعتلاء السلطان ألب أرسلان عرش السلاجقة في عام (455 هـ)، فقد استوزر هذا السلطان رجلًا قديرًا وسنّيًّا متحمسًا، هو الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، الملقب بنظام الملك، فرأى هذا الوزير أن الاقتصار على مقاومة الشيعة الإمامية والإسماعيلية الباطنية سياسيًّا لن يكتب له النجاح إلا إذا وازت هذه المقاومة السياسية مقاومة فكرية، ذلك أن الشيعة إمامية كانوا أو إسماعيلية نشطوا في هذه الحقبة وما قبلها في الدعوة لمذهبهم بوسائل فكرية متعددة، وهذا النشاط الفكري ما كان ينجح في مقاومته إلا نشاط سُنِّيٌّ مماثل يتصدى له بالحجة والبرهان، بخاصة أن السلاجقة ورثوا في فارس والعراق نفوذ بني بويه الشيعيين، وهؤلاء لم يألوا جهدًا في تشجيع الإمامية على نشر فكرهم.

وكان كثيرا من أئمة الشيعة الإمامية يدعون إلى مذهبهم وينشرون عقائدهم في بيوتهم الخاصة، أو في مشاهدهم، وأعني بها المساجد التي دفن فيها أئمتهم -على حد قولهم- لأن بعضها لا يثبت، وعرفت عندهم بالعتبات المقدسة.[15]

نظام المدرسة:

بنيت المدرسة النظامية في بغداد، في القرن الخامس الهجري سنة 459هـ.

حرص نظام الملك على نجاح تجربة المدارس النظامية في تحقيق أهدافها، ولكي يضمن هذا النجاح اعتمد خطة ترتكز على محاور رئيسية:

المحور الأول: الأماكن:

اختار نظام الملك مواقع مدارسه بعناية فائقة، بحيث تكون في العواصم والمدن ذات الثقل السكاني، ومن ثم يمكنها التأثير في أكبر عدد ممكن، وهكذا يضمن تأثيرها بشكل أكبر، يقول السبكي عن نظام الملك: “إنه بني مدرسة ببغداد، ومدرسة ببلخ، ومدرسة بنيسابور، ومدرسة بهراة، ومدرسة بأصفهان، ومدرسة بالبصرة، ومدرسة بمرو، ومدرسة بآمل طبرستان ومدرسة بالموصل”.

هذه إذن هي أمهات المدارس النظامية التي أنشئت في المشرق الإسلامي, ويتضح من توزيعها الجغرافي أن معظمها أنشئ في المدن التي تحتل مركز القيادة والتوجيه الفكري.

المحور الثاني: الدقة والعناية في اختيار المعلمين والأساتذة:

تم اختيار أساتذة المدارس النظامية بعناية تامة، بحيث كانوا أعلام عصرهم في علوم الشريعة، ويشير العماد الأصفهاني إلى دقة نظام الملك في هذه الناحية فيقول عنه: “وكان بابه مجمع الفضلاء، وملجأ العلماء، وكان نافذا بصيرًا ينقب عن أحوال كل منهم، فمن تفرس فيه صلاحية الولاية ولاه. ومن رأى الانتفاع بعلمه أغناه، ورتب له ما يكفيه حتى ينقطع إلى إفادة العلم ونشره وتدريسه، وربما سيره إلى إقليم خال من العلم ليحلِّي به عاطله، ويحيي به حقه، ويميت به باطله”.

وفي كثير من الأحيان كان نظام الملك لا يعين الواحد منهم إلا بعد أن يستمع إليه ويثق في كفاءته، حدث ذلك مع الإمام الغزالي الذي كان يتفقه على إمام الحرمين في نظامية نيسابور، فلما مات أستاذه في عام 478هـ قصد مجلس نظام الملك، وكان مجمع أهل العلم وملاذهم، فناظر الأئمة العلماء في مجلسه، وقهر الخصوم، وظهر كلامه عليهم واعترفوا بفضله وتولاه الصاحب “نظام الملك” بالتعظيم والتبجيل وولاه تدريس مدرسته ببغداد.

وفعل مثل ذلك مع أبي بكر محمد بن ثابت الخُجندي (ت: 496هـ) الذي سمعه نظام الملك وهو يعظ بمرو، فأعجب به وعرف محله من الفقه والعلم، فحمله إلى أصفهان وعينه مدرسًا بمدرستها. كما استدعى الشريف الدبوسي (ت: 483هـ)، ليدرس بنظامية بغداد؛ لأنه كان بارعًا في الفقه والجدل.

وكان نظام الملك يحوط هؤلاء العلماء برعايته، ويمدهم بتأييده، حتى احتلوا منزلة عليا في البلاد التي حلوا بها، وصار لبعضهم وجاهة في بلاط السلطان، كأبي إسحاق الشيرازي الذي اختاره الخليفة المقتدي في عام 475هـ، ليحمل شكواه من عميد العراق أبي الفتح بن أبي الليث إلى السلطان ملكشاه ووزيره نظام الملك، فأكرماه وأجيب إلى جميع ما التمسه، وجرت بينه وبين إمام الحرمين مدرس نظامية نيسابور مناظرة، بحضرة نظام الملك، ولما عاد أبو إسحاق إلى بغداد أهين العميد، ورفعت يده على جميع ما يتعلق بالخليفة.

المحور الثالث: تحديد منهج الدراسة:

كما عنى نظام الملك باختيار الأساتذة الأكفاء لمدارسه، فإنه حدد منهج الدراسة الذي ستسير عليه هذه المدارس، وقد كان لتراث الإمام الشافعي في الفقه والأصول والعقائد وسيرته الذاتية أكبر الأثر على تلك المدارس، كما كان يدرس الحديث، والنحو, وعلمي اللغة والأدب.

المحور الرابع: توفير الإمكانات المادية:

لم يبخل نظام الملك بتوفير الإمكانات المادية التي تعين هذه المدارس على النهوض برسالتها على أكمل وجه، ولذا نراه ينفق عليها بسخاء، ويخصص لها الأوقاف الواسعة، فيذكر ابن الجوزي أن نظام الملك وقف على مدرسته ببغداد ضياعًا وأملاكًا، وسوقًا بنيت على بابها، وأنه فرض لكل مدرس وعامل بها قسطًا من الوقف، وأجرى للمتفقهة (الطلاب) أربعة أرطال خبز يوميًا لكل واحد منهم. أما مدرسة أصفهان فقدرت نفقاتها وقيمة أوقافها بعشرة آلاف دينار، وكان للمدرسة النظامية في نيسابور أوقاف عظيمة.

وقد اهتم نظام الملك بتوفير السكن للطلاب داخل هذه المدارس، ويفهم من بعض الروايات التاريخية أن كل طالب كانت له غرفة خاصة به، إذ روي أن واحدًا من طلابها ويدعى يعقوب الخطاط توفي في عام 547هـ، وكانت له غرفة في النظامية، فحضر متولي التركات، وختم على غرفته في المدرسة، كما حرص نظام الملك على توفير الحياة المعيشية الكريمة لطلاب مدارسه، فإنه حرص أيضًا على تهيئة المناخ العلمي الذي يساعدهم على الدراسة والبحث، فاهتم اهتمامًا كبيرًا بتوفير المراجع العلمية داخل هذه المدارس، فكانت في كل مد­رسة مكتبة عامرة يتولى أمرها قوام على شؤونها، وأشار ابن الجوزي إلى أن وقفية نظامية بغداد نصت على أن يكون متولي الكتب بها أيضًا شافعيًا.

أثر المدارس النظامية في العالم الإسلامي:

وفّق الله تعالى النظام توفيقًا قلَّ نظيره في التاريخ السياسي، والعلمي، والديني، فقد عاشت مدارسه أمدًا طويلًا، وعلى الخصوص نظامية بغداد التي طاولت الزمن زهاء 4 قرون، إذ كان آخر من عرفنا ممن درس فيها صاحب القاموس الفيروز آبادي المتوفى (817 هـ)، فقد زالت في نهاية القرن التاسع الهجري. وأدّت رسالتها في تخريج العلماء على المذهب السني الشافعي، وزوّدت الجهاز الحكومي بالموظفين ردحًا من الزمن، وبخاصة دوائر القضاء، والحسبة، والاستفتاء، وهي أهم وظائف الدولة في ذلك العصر، وانتشر هؤلاء في العالم الإسلامي حتى اخترقوا حدود الباطنية في مصر، وبلغوا الشمال الأفريقي، ودعموا الوجود السنّي بها، إذ تخرج في هذه المدارس جيل تحققت على يديه معظم الغايات التي رسمها نظام الملك، فوجدنا كثيرًا من الذين تخرجوا فيها يرحلون إلى أقاليم أخرى لتدريس الفقه الشافعي، والحديث الشريف، ونشر عقيدة أهل السنة في الأمصار التي انتقلوا إليها، أو تولّي مجالس القضاء والفتيا، أو بعض الوظائف الإدارية المهمة في دواوين الدولة.

وينقل السبكي عن أبي إسحاق الشيرازي -أول مُدرس بنظامية بغداد- قوله “خرجت إلى خراسان، فما بلغت بلدة، ولا قرية إلا وكان قاضيها، أو مفتيها، أو خطيبها تلميذي، أو من أصحابي”.

وقد أسهمت هذه المدارس في إعادة دور منهج السنة في حياة الأمة بقوة، وكان من أبرز آثارها أيضًا تقلص نفوذ الفكر الشيعي، بخاصة بعد أن خرجت المؤلفات المناهضة له من هذه المدارس، وكان الإمام الغزالي على قمَّة المفكرين الذين شنّوا حربًا شعواء على الشيعة، بخاصة الباطنية الإسماعيلية، فقد ألف كتبًا عدة، أشهرها (فضائح الباطنية) الذي كلفه بتأليفه عام (487هـ).

وقد نجحت المدارس النظامية في نشر مذهب الإمام الشافعي، فقوي عوده، ودخل مناطق جديدة، وبدأ يشق له طريقًا في العراق وفي المشرق الإسلامي، وصارت النظاميات مدعاة لبناء المدارس، ومثارًا للتنافس، بقدر ما أصبحت نموذجًا يقتدي به مؤسسو المعاهد منذ بداية تشييدها إلى ما بعد ذلك بعصور طويلة.[16]

كتابه: سير الملوك (سياست نامه):

كتبه رحمه الله باللغة الفارسية في القرن الحادي عشر، تم إنشاءه بناءً على طلب ملك شاه لوزرائه في إصدار كتب عن الحكومة والإدارة والمتاعب التي تواجه الأمة. ومع ذلك، فإن الرسالة التي جمعها الملك كانت الوحيدة التي حصلت على الموافقة، وبالتالي تم قبولها على أنها تشكل «قانون دستور الأمة». يتكون الكتاب من 50 فصلاً تتعلق بالدين والسياسة وقضايا أخرى متنوعة من اليوم مع آخر 11 فصلاً – كُتبت قبل وقت قصير من اغتيال نظام الملك – تتناول في الغالب الأخطار التي تواجه الإمبراطورية وخاصة التهديد المتصاعد للإسماعيليين. تعنى الرسالة بتوجيه الحاكم فيما يتعلق بواقع الحكومة وكيفية إدارتها. ويغطي «الدور المناسب للجنود والشرطة والجواسيس والمسؤولين الماليين» ويقدم نصائح أخلاقية تؤكد على الحاجة إلى العدالة والتقوى الدينية في الحاكم.[17]

وفاته:

بحلول القرن الخامس الهجري كانت فرقة الباطنية الشيعية أو الحشاشين بقيادة حسن الصباح تمثل خطرا داهما على الأمة الإسلامية والمشروع السني، وهو ما فطن إليه نظام الملك جيدا، فعمل من أول يوم على وأد أي تحرك لهذه الأفكار الباطنية الضالة. إذ كان نظام الملك دائما ما يندد أشد التنديد بطائفة الإسماعيلية والتي انحدرت منها الباطنية، ويقول إنها تهدد وحدة الدولة، بل إنه اتهم هذه الطائفة في كتابه (سياسة ناما) بأن زعماءها من نسل المزدكية الشيوعية أهل فارس الساسانية.

وعلى الجانب الآخر فقد انتهج الباطنيون / الحشاشون أسلوب الاغتيالات السياسية لكل من يقف عقبة في طريق المد الباطني في بلاد المسلمين، ولم يكن أمامهم في ذلك الوقت إلا نظام الملك، الذي أخذ على عاتقه محاربتهم والقضاء على فتنتهم.

وفي يوم العاشر من رمضان عام 485 هـ، خرج نظام الملك مع السلطان ملكشاه من أصبهان قاصدا بغداد، فاجتاز في بعض طريقه بقرية بالقرب من نهاوند، وحان وقت الإفطار فصلى نظام الْملك الْمغرب فِي هَذِه اللَّيْلَة وَجلسَ على السماط وَعِنْده خلق كثير من الْفُقَهَاء والقراء والصوفية وَأَصْحَاب الْحَوَائِج، فَجعل يذكر شرف الْمَكَان الَّذِي نزلوه من أَرض نهاوند وأخبار الْوَقْعَة الَّتِي كَانَت بِهِ بَين الْفرس وَالْمُسْلِمين فِي زمَان أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَمن اسْتشْهد هُنَاكَ من الْأَعْيَان وَيَقُول: “هذا الموضع قُتل فيه خلق كثير من الصحابة زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين فطوبى لمن كان معهم”.

فلما أفطر جاءه صبي ديلمي في هيئة مستغيث ومعه قِصَّة، فدعا له الصبي وسأله تناولها، فمد نظام الملك يده ليأخذها فضربه الصبي بسكين في فؤاده، وهرب الصبي فعثر في طُنُب الخيمة فأخذ فقُتل، وَجَاء السُّلْطَان ملكشاه حِين بلغه الْخَبَر مظْهرا الْحزن والنحيب والبكاء وَجلسَ عِنْد نظام الْملك سَاعَة وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ حَتَّى مَاتَ، فَعَاشَ سعيدا وَمَات شَهِيدا فقيدا حميدا.

وَقَالَ بعض خُدَّامه: كَانَ آخر كَلَام نظام الْملك أَن قَالَ: “لَا تقتلُوا قاتلي فَإِنِّي قد عَفَوْت عَنهُ، وَتشهد وَمَات”. وحُمل رحمه الله إلى أصبهان ودفن بها. فَيُقَال: إِنَّه أول مقتول قتلته الإسماعيلية.

ولما بلغ أهل بغداد موت نظام الملك حزنوا عليه، وجلس الوزير والرؤساء للعزاء ثلاثة أيام ورثاه الشعراء بقصائد، منهم مقاتل بن عطية، قال:

كَــانَ الْوَزِيرُ نِظَـامُ الْمُلْـكِ لُؤْلُؤَةً *** يَتِيمَةً صَاغَهَا الرَّحْمَنُ مِنْ شَرَفِ

عَزَّتْ فَلَمْ تَعـْرِفِ الْأَيَّامُ قِيمَتَهَا *** فَرَدَّهَـا غَيْرَةً مِنـْهُ إِلَى الصَّــدَفِ

فرحم الله الوزير الصالح المصلح الشهيد نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، وجزاه عن الإسلام خيرا الجزاء.[18]

قَالَ ابْنُ عَقِيْلٍ: بَهَرَ العُقُوْلَ سيرَةُ النِّظَام جُوْداً وَكَرَماً وَعدلاً، وَإِحيَاءً لِمعَالِم الدِّين، كَانَتْ أَيَّامُهُ دَوْلَةَ أَهْل العِلْمِ، ثُمَّ خُتِمَ لَهُ بِالقَتل وَهُوَ مارٌّ إِلَى الحَجِّ فِي رَمَضَانَ، فَمَاتَ مَلِكاً فِي الدُّنْيَا، مَلِكاً فِي الآخِرَةِ، رَحِمَهُ الله.[19]

شاهد المحاضرة على يوتيوب مع الأستاذ فراس غالي:

حمل العرض التقديمي للمحاضرة:

رابط التحميل المباشر

والدهقان اسم يطلق على أحد وجهاء القرية

  1. نظام الملك, هيفاء البسام, ص: 38 بتصرف

  2. طبقات الشافعية, 4/318

  3. سير أعلام النبلاء, 14/144

  4. الكامل في التاريخ, 8/358

  5. مهمة الأتابك الأساسية كانت في نشأتها الوصاية على الأمير السلجوقي، وتعهد تربيته وتعليمه.

  6. نظام الملك, هيفاء البسام, ص: 56 باختصار

  7. طبقات الشافعية, 4/311

  8. نظام الملك, هيفاء البسام, ص: 68 باختصار

  9. نفس المصدر, ص: 108

  10. نظام المُلك يمهد لمقدم العثمانيين بانتصار ملاذكرد, مقالات الجزيرة

    طبقات الشافعية, 4/253

    المنتظم لابن الجوزي, 16/190

  11. نظام الملك, هيفاء البسام, ص: 112 باختصار

  12. المصدر السابق, ص: 116 باختصار

  13. المصدر السابق, 120 باختصار

  14. المدارس النظامية في العهد السلجوقي وأثرها في العالم الإسلامي, علي الصلابي, مقالات الجزيرة

  15. المدارس النظامية.. الجامعة التي غيّرت العالم الاسلامي, علي الصلابي, مقالات الجزيرة

  16. ويكيبيديا

  17. نظام الملك .. الوزير المصلح, قصة الإسلام, إشراف الدكتور راغب السرجاني

  18. سير أعلام النبلاء, 14/145

Leave A Reply

Your email address will not be published.